يكتب منذ فيلمه الأول «سرقات صيفية» أكد «نصرالله» أنه قادر تماما علي الإمساك بزمام الفيلم مهما كانت صعوبته باسم سمرة يبدو متكلفا دائم الصراخ والتشنج منة شلبي وصلت إلي أقصي درجات النمطية في الأداء لا أنكر أني من عشاق سينما يسري نصر الله بل من أشد المتحمسين لهذا المخرج الشاب الذي انطلق من عباءة يوسف شاهين مبكرا ليكون لنفسه مقاما سينمائيا خاصا به.. مقاما يختلف تماما عن بقية المخرجين من جيله ويضعه دون شك علي رأس قائمة من المبدعين السينمائيين الذين نفخر بهم علي المستوي المحلي والعالمي معا. منذ فيلمه الأول «سرقات صيفية» الذي اعتبره حتي الآن إلي جانب «حديقة الأسماك» أروع ما قدم لنا وأكثر أفلامه تأثيرا وإبداعا وشاعرية. في «سرقات صيفية» أكد المخرج الشاب يسري نصر الله أنه قادر تماما علي الإمساك بزمام الفيلم مهما كانت صعوبته ودقته وجرأته واقتحامه وهو في فيلمه الأول المصبوغ بكثير من ألوان ذكرياته نجح في رسم جو مدهش لمصر في الأربعينات وعلي مشارف الخمسينات من خلال أسرة تقيم في قصرها الريفي. شيء يشبه عالم «تشنجوف» الروسي ممزوجا بعالم تنسي ويليامز الحسي وفيه لمحات من شاعرية ثاركوفسكي وكيرنس ماليك. في هذا الفيلم الملييء بالعطر والنغم والشجن والحب والاحساس الجنسي المرهف الحار اثبت يسري نصرالله قدرته علي تحريك الممثلين واستخلاص أجود ما لديهم وما يختزنون من ذكريات وآمال وأحلام وإحباطات وأمان. رسم المخرج الشاب آنذاك جوا لم يرسمه أي مخرج سينمائي قبله «باستثناء شاهين في إسكندرية ليه» وحرر ممثلين مبتدئين من قيود وهمية كانت تكبلهم فانطلقوا مدهشين عباقرة كما عرف كيف يحرك كاميراه وكيف يوجد أجواء الظل والضوء في ريف مصري بدا لنا وكأننا نراه أو نكتشفه لأول مرة. السينما التسجيلية وتابع يسري مسيرته السينمائية المليئة بالمفاجآت فدخل فورا في أفق السينما التسجيلية المختلطة بالكثير من الدراما والرؤي الشخصية في «صبيان وبنات» وانطلق مدهشا بعوالم أخري تتجاوز بكثير الريف المصري وشخوصه في «المدينة» الذي تدور أحداثه بين فرنسا ومصر ولا يمكننا ولا يمكن لأي مؤرخ للسينما المصرية أن يعيش مشهد السياحة في النيل، من مجموعة الشباب المحبط الحائر الذي يفتش عن نفسه ومصيره والذي يذكرنا بأجمل صفحات سينما «تروفو» الفرنسي في «مرسيدس» واجه يسري نصرالله لأول مرة نجمة عملاقة هي يسرا استطاع بسهولة أن يخضعها لعالمه عوضا عن أن تخضعه لعالمها، كما فعلت مع كثير من المخرجين سواه. وقدم رؤية فانتازية سابقة لعصره بفيلم فيه الكثير والكثير جدا من المزايا وبعض عيوب بسيطة لم تضر السياق العام للسرد الخاص الذي يميز دائما أفلام يسري نصرالله ويعطيها نكهتها المميزة وطابعها الأثير. وجاء «باب الشمس» ليقدم رؤيا سياسيا ناضجة للقضية الفلسطينية من خلال قصة رائعة عرف يسري كيف يحولها إلي فيلم نابض بالسينما بعيدا عن كل ميزاتها الآدمية الكثيرة التي استبدلها يسري بنضج وفهم وذكاء بميزات سينمائية مميزة . هذا الفيلم ذو الطابع السياسي المباشر والمؤثر قاد يسري إلي معالجة خاصة به لرؤية سياسية واجتماعية مرهفة وحادة في فيلم أعتقد أنه واحد من أهم وأكثر الأعمال السينمائية أهمية في العشرين عاما الأخيرة وهو «حديقة الأسماك» الذي لم ينل حقه الحقيقي ومكانته التي يستحقها في أرشيف السينما المصرية المعاصرة. الأسماك تكسب في حديقة الأسماك ذهب يسري نصرالله بعيدا جدا فيما يريد أن يقول وكيف يقوله وتلألأت ميزاته كلها دفعة واحدة لتضيء كالجوهر.. سلاسة في السرد .. إمكانية رائعة في اعطاء أجواء استثنائية تتناغم بشدة رغم اختلافها الجذري.. إدارة ممثليه بعبقرية واستقلال كامل لجميع العناصر السينمائية المتاحة أمامه. لقد حقق يسري ب«حديقة الأسماك» مستوي للسينما المصرية يندر أن رأينا قبلا له إلا في أفلام شاهين أو أفلام صلاح أبوسيف الأولي .. أو حسين كمال في «بوسطجية» بعد هذا الانتصار السينمائي المبهر بكل المقاييس كان لابد ليسري أن يعطي نفسه استراحة اعتدنا أن نطلق عليها اسم «استراحة المحارب» فترك نفسه لسيناريو وحيد حامد الذي يختلف عنه جذريا بكل شيء ليقدم لنا فيلمه المثير «احكي ياشهرزاد» والذي نجح فيه في إعطاء لمسة «يسرية» إلي عالم وحيد حامد المتكامل الذي لا ينفذ منه الماء. اختلفت الآراء حول احكي ياشهرزاد.. وهل هو حقا فيلم ليسري نصرالله؟ أم أنه ممزوج بالماء الثقيل لوحيد حامد؟ لكن مهما كانت طبيعة الخلاف يظل الفيلم شهادة قوية لذكاء مخرج عرف كيف يتعامل مع عوالم متناقضة تماما لعالمه وكيف يهجنها ويطوعها لرؤيته السينمائية رغم بعض الثقوب التي تسربت منها المياه. وأخيرا جاءت الموقعة وما بعدها... أراد يسري بسينماه أن يكون شاهدا علي حدث سياسي مهم غير من حياة مصر والمصريين وقاد البلاد كلها إلي منعطف لا ندري إلي أين سيصل بنا. وتوقف يسري أمام حدث جليل هو «موقعة الجمل» التي تعتبر حصان طروادة في ثورة يناير الشبابية الكبري. انعطف علي قائد جمل من نزلة السمان ثورة في هجوم أومر به دون أن يدرك مداه ونال عقابا صارما من الجماهير عاد بعده مثخنا بالجراح إلي حيه الشعبي الذي يعيش كامل سكانه علي موارد السياحة التي انقطعت تماما بعد اندلاع ثورة الشباب. عالم النزلة وتثير كآبة هذا الشاب مخيلة محققة صحفية تحاول أن تفهم سر اشتراكه وسبب أزمته، وتكتشف لأول مرة عالم نزلة السمان ومشاكله وهمومه وآماله واحباطاته.. انها باختصار قصة فرد عادي يجد نفسه في معترك ظروف غير عادية أحاطت به كالسوار في المعصم هو يدفع ثمنها مرغما.. ولكنها في المقابل الفرصة المدهشة التي ستدفعه إلي مواجهة نفسه ومصيره وموقعه في هذا العالم. العمود الفقاري للسرد شديد الإثارة ويمكن أن يصنع فيلما مدهشا تري منه كل ما تعودنا أن نراه في أفلام يسري نصرالله وأن نعيش متناقضاته ومتناقضات عصره.. وأن نقف وقفة الحائر قبل أن نطلق حكما جائرا أو شهادة وفاء. فما الذي حدث فعلا حتي خرج الفيلم عن هدفه وحتي اضاع يسري نصرالله عالمه .. سيناريو مفكك بعيد عن الإقناع شخصيات تدور حول نفسها وتتصرف دون منطق حقيقي مزايدة في الشعارات المباشرة مزج بين العام والخاص يعوزه الخيال الحقيقي وقصة حب «مفبركة» لا تقنع أحدا. وأكثر المصائب إثارة للدهشة هي إهمال يسري نصرالله في الميزة الكبري التي طبعت أفلامه كلها وهي إدارة الممثلين باسم سمرة.. يبدو متكلفا دائم الصراخ والتشنج والانفعال.. ومنة شلبي التي اعتدت دائما أن أطلق عليها فاتن حمامة القرن الحادي والعشرين تصل في نمطية أدائها إلي أقصي الحدود.. وحدها ناهد السباعي استطاعت أن تذكرنا بموهبة يسري نصرالله في إدارة الممثلين وخرجت من الفيلم ناصعة كالجواهر مضيئة كالألماس في دور التصق بكيانها كله.. واستطاعت رغم نمطيته «الزوجة المخدوعة» أن تعطيه بعداً إنسانيا جارفا. إنها الاكتشاف الحقيقي والمبهر في هذه الموقعة التي دخلها يسري نصرالله حاملا راياته وسيوفه ولكنه خرج منها خالي الوفاض. وتركنا كلنا نتساءل بحيرة وماذا فعلا بعد هذه الموقعة وإلي أي اتجاه سيتجه مخرجنا الكبير الذي نعقد عليه وعلي رؤيته السينمائية ونضجه الفكري والفني أكثر الآمال وأكبرها؟