مازال الارتباك وعدم الاستقرار يهدد البلاد علي الرغم من وجود رئيس جمهورية منتخب..مازلنا نتساءل هل سيصل قطار الثورة إلي محطة الوصول أم أنه قد خرج عن مساره بالفعل إلي غير رجعة.. مازلنا ننتظر تشكيل وزارة مسئولة ذات خطط ورؤي وسلطات تنفيذية حقيقية.. وفي ظل هذه الأجواء تعمل إدارة مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط، بكل جهدها لإقامة الدورة الثامنة والعشرين.. الكل يعمل بشكل تطوعي بلا مرتب ولا تمويل ولا دعم ولا أي موارد للإنفاق علي أبسط الأشياء. تكاد الجوانب الفنية للمهرجان أن تكتمل قبل أن تلوح أي نذر لقدوم وزير ثقافة جديد يقرالتمويل فيعيد لنا الروح والحياة بعد أن كدنا نصل إلي مرحلة الإحتضار.. تتوالي تساؤلات المكتب الفني للرد علي استفسارات أصحاب الأفلام وضرورات حسم أمور تكاليف إرسال الأشرطة أو نفقات سفر الضيوف أو أعضاء لجان التحكيم أو الإمكانيات اللازمة لسبل العرض المختلفة.. كل الإجابات مؤجلة في انتظار التمويل الذي نأمل أن يأتي قبل أن ييأس العاملون في الداخل قبل أصحاب الأفلام في الخارج. عد تنازلي علي أي حال لا يعتريني شخصيا اليأس كرئيس للمهرجان ومازلت متفائلا علي الرغم من أننا بدأنا مرحلة العد التنازلي ولم يتبق علي موعد بدء الفعاليات سوي أسابيع قليلة.. لا أتصور أن جهدا بهذا الحجم يمكن أن يهدر ولا أن برامج بهذه القيمة ستحرم منها مدينة الإسكندرية.. ولا أن ثاني أعرق وأهم مهرجانات مصر السينمائية في دورته الثامنة والعشرين يهدد بالتوقف وهو الذي أقيم في العام الماضي في عز أيام الانفلات الأمني والارتباك السياسي.. لا أعتقد أن هناك من بإمكانه أن يطلق رصاصة الرحمة علينا ومازالت بنا رغم الإجهاد والإحباط روح تنبض وأمل كبير في أن نحقق أهدافنا الثقافية والتنويرية في إقامة هذا المهرجان لتأكيد الوجه الحضاري والمدني والفني لبلدنا العريق وللإسكندرية الجميلة المنيرة دائما بأهلها وفنها. كنا قد قررنا أن نختزل في شعارنا للمهرجان أهداف ثورتنا المعلنة في أحد شعاراتها وهو الكرامة الإنسانية.. والتي لا يمكن أن تتحقق حرية إلا من خلالها ولا عدالة إجتماعية بمعزل عنها ولا طعم للخبز وللحياة بدونها.. وتحت هذا الشعار نقيم برنامج حقوق الإنسان الذي سوف يعرض عددا من الأفلام المصرية والعربية والأوروبية نتوجها بتحفة الأخوين تافياني رائعة مهرجان برلين (قيصر يجب أن يموت) والذي يصور كواليس وأحداث عرض مسرحي لفرقة من المساجين بإبداع فني خالص وبتأكيد موضوعي علي قيم الحرية والكرامة. ثورة سوريا وفي نفس الإطار أعلن المهرجان أن الثورة السورية هي ضيف شرف هذه الدورة، تماشيا مع شعاره، وتضامنا مع الشعب السوري الثائر الذي يتعرض للمذابح علي مدي شهور طويلة لانه يرفض إهانة كرامته ويصر علي استمرار ثورته. وضمن برنامج التكريم سنعرض مجموعة من الأفلام السورية التسجيلية التي تحكي تفاصيل الثورة السورية منها "23 دقيقة تم تهريبها من حلب" و" سوريا في جحيم القمع" وأفلام أخري عن مذابح حمص وحماة وإدلب ودير الزور ودرعا ، إضافة إلي مجموعة نادرة من الأفلام الروائية التي تعبر عن وجهة نظر الفنانين السوريين الذين اتسموا بالشجاعة وأعلنوا عن تضامنهم مع الثورة السورية ورفضهم لممارسات النظام السوري . وضمن برنامج سينما الغضب يعرض المهرجان الأفلام الروائية الطويلة "الليل الطويل" لحاتم علي ، "نجوم النهار" لأسامة محمد و"أحلام مدنية" لمحمد ملص. خارج المألوف وبالإضافة للقسم الإعلامي الذي سيشهد تنويعة رائعة من أفلام يغلب عليها طابع البهجة ومتعة الفرجة، سيعرض المهرجان ولأول مرة برنامجا بعنوان سينما خارج المألوف والذي سوف يتضمن عددا من التجارب السينمائية الجريئة التي حالت شروط المسابقة الدولية دون اشتراكها في التنافس علي الجوائز. ولكنها أفلام تستحق العرض والمشاهدة خاصة من قبل جمهور النقاد وشباب الفنانين المهتمين بالسينما غير التقليدية. وحيث يتاح لهم مشاهدة الفيلم التركي (شعر) الذي يتوغل في علاقة رجل وامرأة بأسلوب شعري وبلغة سينمائية خالصة. وكذلك الفرنسي (إجازات علي البحر) وهو عبارة عن إسكتشات سينمائية حركية ولكنها تصب جميعها في خدمة فكرة التلاقي بأسلوب ساخر وفي أجواء شاطئية خلابة. أما (طريق العودة) فهو تجربة مختلفة للمخرج إيهاب حجازي وهو مصري دارس ومقيم في روسيا. ويتصدي فيلمه لرواية لتشارلز ديكنز بأسلوبية مميزة وبمعالجة تتناسب مع واقع عصابات المافيا الروسية وتأثيرها علي الشباب والصبية. لن أستطيع أن أكشف لكم الكثير عن قسم روائع متوسطية حديثة الذي سيعرض عددا من أهم أفلام دول البحر المتوسط الحديثة وأكثرها تميزا وحصولا علي جوائز دولية. ويكفي أن أذكر لكم أن من بينها سيكون فيلم (عاطفة)الحائز علي السعفة الذهبية وغريمه (العظم والصدأ) الذي أجمعت آراء معظم النقاد علي أنه كان درة مهرجان «كان» في دورة هذا العام والأحق بجوائزه الكبري. مسابقة قوية ستشهد دورة هذا العام من مهرجان الإسكندرية السينمائي منافسة قوية بين عدد من أروع الأفلام قد يصل عددها لأول مرة إلي ستة عشر فيلما تمثل غالبية دول البحر المتوسط المنتجة للسينما، بل وتمثل أفضل وأرقي مستويات السينما في بلادها التي حرصت أن تقدم لإدارة المهرجان مختارات من أفضل إنتاجها. وهو ما وضع اللجنة العليا في موقف صعب للحسم بين الجيد والأجود. وقد أصبح من المؤكد أن تشارك تركيا وحدها بفيلمين أولهما سبق الكتابة عنه علي صفحات هذه الجريدة منذ أسابيع بعنوان (لا تنسيني يا اسطنبول) كمقاطع من قصيدة عشق في حب اسطنبول صاغها برهافة عدد من مبدعي المنطقة عن ذكرياتهم مع المدينة الجميلة. ومن تركيا أيضا تأتي تجربة شديدة الندرة والأهمية بعنوان الصياد. وهو فيلم تدور أحداثه في بيئة مميزة وأجواء مختلفة وعبر دراما شخصية شديدة الإحكام وقوية التأثير. ومن فرنسا يأتي فيلم علي الشاطئ. وهو فيلم سايكودراما في إطار تشويقي.. يدور حول شرطي كبير في حالة من عدم التوازن والإحباط يسعي للحصول علي إجازة مرضية ويهجر امرأته ويهيم علي وجهه في الشوارع.. تبدأ الأحداث حين يتأكد من موت امرأة في شرفتها بملابس السباحة . ويقوم بالإبلاغ عنها بزعم أنه يعرفها ..هل يريد أن يكشف عن أسرار مقتلها أم أنه يعرفها بالفعل وهي سبب مأساته؟ لن تتأكد إلا في المشهد الأخير الرائع الذي يقفز فيه في البحر خلف رماد جسدها ليشعر بملمسها وإحساسه بذراتها وهي تتغلغل في كيانه وكأنه يراقصها تماما ..فهل كان هو بالفعل من يذوب في أحضانها علي الشاطئ؟ عرب أوسطيون تنافس المغرب بقوة أيضا وذلك عبر فيلمها (أندرومان من دم وفحم) وهو عن فتاة تعيش في ملابس الرجال بأمر والدها الذي تعاني قسوته حين يلمح منها أي مظهر أنثوي ..تتكشف الحقيقة علي مهل وتتضح المأساة بأسلوب درامي بليغ. لدي الجار الجزائري أيضا فيلم شديد الرهافة والإنسانية بعنوان ( قداش تحبني؟). وهو عنوان باللهجة الجزائرية يعني ( كم تحبني). وهو عن ذكريات طفل خلال فترة انفصال الأم عن الأب وإقامته مع جده وجدته حيث لقاء بين عالمين يفصلهما الزمن لكن يجمعهما التعاطف والحب. أما فيلم العدو فهو من روائع الإنتاج المشترك بين كرواتيا والبوسنة وصربيا. وهو يدور في أجواء ما بعد الهدنة وآثار الحرب من قلب المواقع العسكرية وفرق الكشف عن الألغام وتقسيم الحدود. تتجلي من خلاله صور مدهشة للحياة والمشاعر الإنسانية رغم الأجواء العسكرية..وهو يتميز بصورة سينمائية رائعة ولغة فيلمية متقدمة وأداء تمثيلي حي ومتمكن. الإنتاج والفكر أما فيلم الصمت المتجمد الإسباني فهو فيلم كبير بكل ما تعنيه الكلمة إنتاجيا وفكريا. وهو يرجع بنا إلي عام 1943 حيث الجنرال فرانكو يبعث بفرقة عسكرية الي روسيا مهمتها مساعدة هتلر في القضاء علي الشيوعية ولكن الجيش الاحمر يتصدي في عناد ومقاومة مستمرة ..يضيع الاسبان في ارض غريبة ويواجهون الموت والصقيع وتجمد القلوب والخوف من الخيانة ومن انفسهم ايضا ..فيلم محكم الصنع وعميق الفكرة ومنضبط الايقاع. في فيلم بيليفيديري -من البوسنة نعيش في معسكر لاجئين ونتابع رحلة البحث عن الاهل المفقودين بين الهياكل العظمية ..أجواء حزينة وسط الموت ولكن الحياة موجودة ايضا في شاب يبني بيته بيده ويلعب الرياضة وامرأة تحب الاطفال ولا تنجب.. وعجوز مدمن الخمر ويصاب بنوبات مرضية وعصبية لكنه يجد من تعتني بأمره ..احساس بصري متميز وموقع شديد الخصوصية وصورة تعكس المضمون الدرامي ببلاغة وإيجاز. مشاركة مصرية أصبح من المؤكد أيضا مشاركة السينما المصرية في المسابقة الدولية وهو أمر تم حسمه مبكرا بخلاف كل الدورات السابقة التي كانت مشكلة غياب أو وجود الفيلم المصري حديث الصحافة والاعلام الذي لا ينقطع. بل إن الحضور المصري في دورة هذا العام سيتواجد في أقسام مختلفة. وهذا فضلا عن المسابقة المحلية في مجال الأفلام القصيرة والتسجيلية والتحريك. وهذا أيضا غير برامج علي هامش المهرجان مثل ورشة الفيلم القصير ومسابقة القلم الذهبي في النقد ومسابقة عبد الحي أديب في السيناريو. لا أعتقد أن هناك مسئولا وطنيا في هذا البلد يمكنه اغتيال هذا الحلم بدلا من تحقيقه ودعمه ماديا بعد أن حظي بموافقة محافظ الإسكندرية علي إقامته تحت رعايته في الأسبوع الماضي. ولم تبق سوي موافقة الوزير المنتظر حتي يتحقق عرس الإسكندرية وهي تستقبل روائع الأفلام وكبار السينمائيين من دول البحر المتوسط.