كانت الخمسينيات بداية ما سمي العصر الذهبي للسينما المصرية، وصارت فاتن قبلة رعيل جيل جديد بدأ الإخراج. وقامت بدور البطولة في أول أفلام المخرج يوسف شاهين "بابا أمين" (1950). وكان التوجه العام نحو الواقعية، وخاصة علي يد المخرج صلاح أبوسيف، فقامت فاتن بدور البطولة في فيلم "لك يوم يا ظالم" (1952)، الذي اعتبر من أوائل الأفلام الواقعية. وكذا حدث في "المنزل رقم 13" (1952) أول أفلام المخرج كمال الشيخ، الذي يعتبر، في نفس الوقت، العلامة الأولي في أفلام "التشويق" في السينما العربية. هل أنا سعيدة؟ تقول فاتن: مرت الأيام وأنا منهمكة في العمل، وذات ليلة كنت وحدي في البيت انتظر عودة عز الدين، الذي كان عاشقاً للفن، يقضي معظم يومه في الاستديو، وسألت نفسي: هل أنا سعيدة؟ وكانت هذه أول مرة أبحث فيها عن إجابة لمثل هذا السؤال. واكتشفت أن علاقتي بعز الدين كانت علاقة تلميذة مبهورة بحب الفن، انجذبت لأستاذ كبير. تزوجت التلميذة الأستاذ مدفوعة بدوافع ليس من بينها الحب، فتضاعف إحساسي بالحرمان الفراغ الذي كنت أعانيه في ظل غياب عز الدين، وبدأت حياتنا تعرف طريق الملل والخلاف والصدام المستمر، وكان عنيداً ومعتزاً بنفسه إلي درجة مثيرة، أدت إلي تعثر حياتنا الزوجية، ولم يكن هناك بديل عن الطلاق (تم 1954)، بعد أن دب الفتور في حياتنا. فشل "بابا أمين" أول فيلم لفاتن مع يوسف شاهين، فقد كان يسبق زمنه كثيرا، ولم يحقق نجاحاً جماهيرياً. ومع ذلك كان للأفلام التي مثلتها فاتن مع شاهين أهمية خاصة جداً، حيث إنها أبرزت إمكاناتها، خارج الإطار الجامد التي سجنتها فيه السينما التجارية، إذ تضمنت تلك الأفلام فتوحا فنية لا تزال تحتفظ بقيمتها وأصالتها حتي اليوم. تقول فاتن: بعد فترة وجدت شاهين يعرض علي العمل في فيلم جديد، ولأني كنت معجبة بفكره وعقله لم أتردد، رغم أن التمثيل مع شكري سرحان في "ابن النيل" لم يرقني. ولما استفسرت عن أبطال الفيلم الجديد قال: محمود المليجي وفريد شوقي، لكن البطل ولد جديد. وحين سألته عن اسمه رد بأنه شاب مهذب ورياضي، وكاد صبري ينفد من مناورته وكتمانه فألححت. ولما قال ميشيل شلهوب ضحكت بشدة، وسألته هو أجنبي ولا أيه؟! فقال اطمئني. أنا غيرت اسمه وأسميته عمر الشريف. صراع في الوادي كان عمر زميل دراسة ليوسف شاهين في كلية فيكتوريا بالإسكندرية، وبعد أن أنهي دراسته الثانوية عمل في شركة والده بتجارة الأخشاب. ومن هنا فلم تكن له خبرة كممثل محترف، لكنه كان رئيساً لفريق التمثيل في المدرسة. تستطرد فاتن: "وحين شاهدت عمر للمرة الأولي تسمرت في مكاني بضع دقائق، وشعرت أمام كلماته الرقيقة أنني تلميذة صغيرة تستمع إلي أول عبارة إعجاب، بالرغم من أنه علق فقط علي صوره كان الفنان صلاح طاهر قد رسمها لي، وعلقتها علي الحائط الرئيسي بالشقة". كانت فاتن مشهورة برفضها أي لقطة فيها قبلة ولكن سيناريو "صراع في الوادي" كان يحتوي علي قبلة بين البطلين، ووسط دهشة الجميع وافقت علي اللقطة، وأثناء تصوير الفيلم حدث الطلاق بينها وبين زوجها عز الدين ذو الفقار. تقول فاتن: "الحقيقة أنه من أول لقاء مع عمر تغير حالي تماماً، وخلال الأيام التي مرت حتي بدء التصوير، وخلاله، تأكدت من حبي له، وانتهي الأمر بالزواج (عام 1955) بعد أن أشهر إسلامه، وقد اشتركنا معاً في بطولة عدد كبير من الأفلام مثل "أيامنا الحلوة، صراع في الميناء، لا أنام، سيدة القصر، وغيرها"، ورزقت منه بابني الوحيد طارق يوم 21 مارس عام 1957 أي بعد نحو عامين من الزواج". (استمر هذا الزواج إلي عام 1974). عندما بدأت فاتن مشوارها كان النمط السائد للتعبير عن الشخصية النسائية في الأفلام المصرية يمشي علي وتيرة واحدة، فالمرأة إن لم تكن بسيطة منكسرة فهي برجوازية، تمضي معظم وقتها في نوادي الطبقات الراقية، تطارد الرجال أو يطاردونها، كما كانت هناك نزعة لتسليع جسد المرأة، بإضافة طابع الإغراء لأفلام ذلك الوقت، وكانت معظم الممثلات يجدن الغناء أو الرقص. لن أبكي أبدا ومع أجواء ثورة يوليو 1952 دخلت فاتن مع السينما في مرحلة التمرد والرفض. بداية من رفض الظلم في فيلم يوسف شاهين "صراع في الوادي" (1956)، وفي فيلم أحمد بدرخان "الله معنا" (1955)، وفيلم حسن الإمام "لن أبكي أبدا" (1957). لكن فاتن وصلت إلي مرحلة النضج الفني مع فيلم "دعاء الكروان" (1959)، الذي اختير كواحد من أحسن ما أنتجته السينما المصرية، وكان مأخوذا عن رواية لعميد الأدب العربي طه حسين، وكانت الشخصية التي قامت بتجسيدها ثرية جداً من الناحية النفسية. واعتبارا من هذا الفيلم التفتت إلي أهمية أن تكون هناك أصول أدبية للأفلام، وبدأت بانتقاء أدوارها بعناية. فمثلت "نهر الحب" (1960) الذي أخذ عن رواية ليو تولستوي الشهيرة "آنا كارنينا"، و"لا تطفيء الشمس" (1961) عن رواية إحسان عبدالقدوس، و"لا وقت للحب" (1963) عن رواية يوسف إدريس. والجدير بالذكر هنا أن عوامل متعددة مرت بها السينما المصرية، مع سلطان الدولة، دفعت فاتن إلي الابتعاد عن مصر بعض الوقت. وأثناء فترة غيابها طلب عبدالناصر من مشاهير الكتّاب والنقاد السينمائيين إقناعها بالعودة، ووصفها بأنها "ثروة قومية"، وكان- ناصر- قد منحها وساماً فخرياً في بداية الستينيات. وبسبب ظروف الحرب خلال الستينيات وآثار نكسة 1967 وانعكاسها علي الأوضاع الاقتصادية وأوضاع السينما في مصر، هاجر إلي لبنان عدد من فناني مصر، في مقدمتهم المخرجان يوسف شاهين وبركات، فريد شوقي، فريد الأطرش، مريم فخر الدين، عماد حمدي، عبدالسلام النابلسي. وهكذا لم ترجع فاتن إلي مصر إلا في عام 1971، بعد وفاة عبدالناصر. لقد أتيح لفاتن أن تتمتع منذ طفولتها المبكرة بسمات الشخصية القوية التي تبشر بالفوز والنجاح في مستقبل الحياة. فهي ذات جاذبية وذكاء فطري، حاضرة الذهن سريعة البديهة، لماحة الحس رقيقة المشاعر، بسيطة وطبيعية في كل تصرفاتها إلي أبعد الحدود . كما أنها تملك نظرة ثاقبة، إضافة إلي عزيمة من حديد، إذا أرادت شيئا حققته دون حساب للصعاب والأقاويل، مادامت مؤمنة بصحته. وفي مفارقة مع ذلك فرضت ظروف السينما الموضوعية عليها طويلا أدوار الفتاة الضعيفة المسكينة المظلومة. فصناع السينما كانت لهم مواصفاتهم، التي تتطلبها ظروف السوق المصرية والعربية، وكان ما يشغلهم هو تحويل فاتن إلي منجم للذهب، يتم الاغتراف منه دون حساب. إمبراطورية ميم تقول فاتن: "القوة شرط من الشروط التي لا أتنازل عنها في الشخصيات التي أعيشها . وقوة المرأة لا تعني أن تكون مسترجلة، أو أن تتجني علي غيرها، أو أن تكون متسلطة . القوة عندي تعني الصمود في وجه عواصف الحياة، والمطالبة الجادة بالحقوق العادلة، والعمل علي جمع شتات الأسرة وزيادة تماسكها . وفعلا قمت بأدوار تتوافر فيها هذه السمات مثل "إمبراطورية ميم" (1972)، "أريد حلا " (1975)، "لا عزاء للسيدات" (1979)، "يوم مر .. يوم حلو" (1988)، "أرض الأحلام" (1993). أما أفلام الخمسينيات فلن أدافع عنها، لكن المفروض وضعها في سياقها التاريخي. فأولا، لم تكن المرأة قد تحررت بعد، فأبواب المدارس والجامعات لم تفتح أمامها، علي نطاق واسع، إلا في الخمسينيات . وثانيا لم تسنح للمرأة فرصة للعمل، إلا في مرحلة لاحقة . الوضع الذي عبرتُ عنه في أفلام الستينيات، مثل "لا وقت للحب" (1963) حيث قمت بدور مدرسة تنخرط في العمل الوطني، ضد الاحتلال، وتراهن بحياتها، في سبيل حرية بلادها . وقبلها مدرسة "الطريق المسدود" (1958) التي تواجه بجرأة رياء مجتمع منافق، وهذه المدرسة هي التي أصبحت، لاحقا الناظرة أو مديرة المدرسة في مسلسل "ضمير أبله حكمت " (1994). عشرات المهن لم تكن متوافرة للبنت المصرية في الأربعينيات، وبالتالي كان منطقيا أن أكون بائعة اليانصيب في فيلم "عائشة" لجمال مدكور 1953، أو مجرد يتيمة في "اليتيمتين" لحسن الإمام 1948 ويجب ألا ننسي أن أفلام الخمسينيات بميلودراميتها توافقت مع مزاج الجمهور حينذاك . والحق أن وعيي وإدراكي أيامها لم يكن كما هو فيما بعد، وأدواري في أفلام مثل "ملاك الرحمة وملائكة في جهنم والملاك الأبيض"، وكلها من إنتاج عام 1947، كانت ترضي طموحي كفتاة في عشرينياتها تعشق التمثيل، ذلك أنها أتاحت فرصة الانطلاق والتحقق، إلي آخر مدي، حسب مفاهيم ذلك الزمان. ويجب ألا يفوتنا أخيرا أن الذي كان يكتب القصة للسينما في الأربعينيات والخمسينات كتاب مصريون. وكل رواياتهم عن المرأة (سيدة أو فتاة) كانت تصورها سلبية، يسيرها الأب أو الزوج أو الشقيق، كما أنها معتمدة ماليا عليهم. مع ظروف الستينيات الاجتماعية نزلت المرأة للعمل والدراسة في الجامعة. حدث تطور كبير. المرأة المصرية استقلت ماديا وبدأت تختار شريك حياتها. ولم تعد كارثة أن تصطحب البنت زميلها إلي بيتها وتقول لأهلها: هذا أحبه وأريد أن أتزوجه". عادت فاتن إلي السينما في السبعينيات برؤية جديدة، حملت بصمات سنوات الغربة ورياح أوروبا، ومعها نوعية مختلفة من الأفلام، التي يمكن وصفها بأفلام الرسالة الاجتماعية، التي تلتزم بقضية من القضايا الملحة، كما حدث في فيلم "إمبراطورية ميم" (1972) بطابعه النقدي المحرض علي الديمقراطية، حيث مثلت دور الأرملة التي كانت مسئولة عن عائلتها في ظل غياب الأب، وكان الفيلم إسقاطا علي أوضاع البلاد علي اعتبار أنها "إمبراطورية مصر". وكان فيلمها التالي "أريد حلا" (1975) الذي تضمن نقداً لاذعاً لقوانين الزواج والطلاق في مصر، مما ساهم في تغيير قوانين الأحوال الشخصية. وقد جسدت فيه دور امرأة عصرية تحاول أن يعاملها القانون بالمساواة مع الرجل. وفي عام 1988 قدمت مع المخرج خيري بشارة فيلم "يوم حلو يوم مر" ولعبت فيه دور أرملة، في عصر الانفتاح والمبادئ المتقلبة، تحمل مرارة أعباء ثقيلة جدا دون أن تشكو، وكلها أمل بالوصول إلي يوم حلو يمسح ذاكرة اليوم المر. إن فاتن تكرر عادة: أنا لا أمثل أدواري، ولكني أعيشها .أمتلئ بمكوناتها وأحاسيسها وأفكارها. تقول: في "دعاء الكروان" مثلت دور بدوية. وبدو صحراء الفيوم بدو رحل عادة. ذهبنا وجلسنا معهم. وكنا نضطر للكذب، ونقول لهم: "إننا موظفون من الشئون الاجتماعية، ونريد أن نعرف أحوالكم لتحسينها".. كان من المهم أن أعرف طريقة لبس البدويات وتصرفاتهن أثناء الكلام والأكل والضحك. وأثناء التصوير كان معنا أحد أفراد قبائل البدو من أجل ضبط اللهجة. هذا أيضا حدث في فيلم "الحرام" حين عملت دور عزيزة الفلاحة. وأتذكر أننا استعنا بفلاحات التراحيل لأن الكومبارس كن سمينات، ولم يعرفن كيف يمثلن حياة فلاحات التراحيل. في أحد المشاهد أغمي علي عزيزة من ضربة الشمس ووقعت علي الأرض، فأسرعت الفلاحات إليها، وقعدن جنبها، تصورن أنها أغمي عليها حقيقة. وأزعجهن إعادة المشهد، فلم يفهمن لماذا يتكرر الإغماء! تقول فاتن: النص المكتوب يساعد كثيرا في فهم الشخصية. فيلم "دعاء الكروان" كان صعباً جداً إلا أنه خرج في صورة جيدة أشاد بها الكثيرون، وهذا يرجع إلي رواية طه حسين ووصفه وصفاً مفصلاً وبأشكال متنوعة، وقد كتب السيناريو عن الرواية يوسف جوهر وهو مبدع جداً، والشخصية التي لعبتها كانت مرسومة بدقة متناهية، مما سهل علي أن أعيشها وأجسدها جيدا. إحسان عبدالقدوس من أرهف كتابنا في الإحساس بنبض البنت المصرية، يدرك أشواقها للحرية، وبطلاته يتمتعن بقدر لا يستهان به من الصلابة، وهذا ما جعلني أحبهن وأحترمهن، لكن بعضهن يتمردن، وقد يجنحن نحو الشر، كما هي الحال مع بطلة "لا أنام". وقد أحببت كتابات يوسف إدريس، فبالإضافة للغته الآسرة، التي تستدرجك معها عبر الصفحات، يتمتع بنفاذ بصيرة مدهشة، فهو يفهم دوافع أبطاله، ومهما بدا التصرف غريبا أو شاذا يفسر، بوضوح، ما قد يستعصي علي التفسير. أتذكر جيدا يوم قرأت "الحرام" في جلسة واحدة، لم أنم طوال الليل، استولت علي عزيزة بطلة الرواية، وفي الصباح أرسلت الكتاب لهنري بركات، وقلت له أنني أتمني أداء هذه الشخصية . وثمة أشياء تساعدني بقوة علي معايشة الشخصية التي أؤديها، مثل الملابس، وبعض التفاصيل الصغيرة. أول ما ألبس ملابس الدور أكون الشخصية. أزمة السينما إن فاتن حمامة لم تكن ممثلة فقط، فكثيرا ما مارست الإنتاج السينمائي، ومبكرا منذ أربعينيات القرن العشرين. وكثيرا ما تحدثت عما يخص أزمة السينما ومن حكاياتها في هذا الصدد. الرعيل الأول عاني كثيرا في أوائل الخمسينيات لم يكن هناك أحد يوافق علي تشغيل مخرجينا الكبار، لأنهم جادون ويصنعون أفلاما تخلو من المشوقات الجماهيرية، فبدأ هؤلاء المخرجون ينتجون، وفي أواخر الخمسينيات خرجت عدة أفلام من النوع الجاد ونجحت، وبدأت نهضة السينما المصرية، ولكن ما يحدث أنه بعد كل حرب وكل أزمة تروج الأفلام الشعبية ويقبل عليها الجمهور، لأن النفس تكون قد ملت الجد. هناك نماذج ممتازة من مخرجي الجيل الأوسط أمثال خيري بشارة ومحمد خان وعاطف الطيب. أعجبت جدا بأفلام محمد خان مثل "خرج ولم يعد وأحلام هند وكاميليا وسوبر ماركت والحريف"، ومن أجمل الأفلام "الطوق والأسورة" لخيري بشارة، وشاهدت لعاطف الطيب أول فيلمين، كما شاهدت فيلم "الصعاليك" لداوود عبدالسيد، الذي أعتبره من أخطر مخرجي هذا الجيل. لقد أعجبتني لغة السينما الجديدة السريعة وشجعتني بالفعل للعودة إلي التمثيل في "يوم حلو ويوم مر وأرض الأحلام ". لكن نفس قصة الخمسينيات تكررت مع هذا الجيل. جاء عليهم وقت تعقدت الأمور معهم ولم يجدوا أعمالا، لأن بداياتهم حملت التصميم علي عدم التنازل. أعتقد أن للسينما مجالا واسعا وإمكانات ضخمة، ويستطيع الفنان أن يعطي الجمهور أفكارا كبيرة وعميقة ولكن ببساطة ودون فلسفة، وسوف يقبل الجمهور عليها. الحياة ليست كلها جدا، فيها الضحك والمرح، ويمكن عمل ذلك في إطار فني يسمو بالروح. وإذا ما تجاوزت رسالة الفيلم مستوي فهم الجمهور فهي رسالة فاشلة، والفيلم فاشل لأن رسالته لم تصل، مهما أطلق عليه من مسميات، تخرج من باب الدعاية قبل أو بعد عرض الفيلم. لكن ذلك لا يعني الانحدار والهبوط بحجة أن "الجمهور عاوز كده". الجمهور يريد من الفنان توصيل رسالة جيدة وممتعة بلا تعقيد. لقد عملت مع عدد كبير من المخرجين، لكن ذوق بركات يتطابق مع ذوقي، إنه يحترم عين المشاهد وأذنه ومشاعره . الدمامة والألفاظ السوقية يرفضها كما أرفضها، فالفن لا ينقل الواقع بقبحه وفجاجته، ولكن يعبر عنه بطريقة جمالية . فمثلا، في "أفواه وأرانب" مشهد لعدد كبير من أبناء شقيقتي، يأكلون بسرعة من طبق فول . ولأن بركات يتمتع بدرجة عالية من الذوق، فإنه تحاشي جرح عين المشاهد بمنظر الأطفال الجوعي وهم يلتهمون الطعام، واكتفي بأن ينتقل بالكاميرا من الأصابع بداخل الطبق، إلي وأنا أدخل من الباب لأضرب بكفي علي صدري وأقول "ناقص تاكلوني كمان"، ثم يعود بالكاميرا إلي الطبق الذي أصبح خاويا . هنا يصل المعني دون أن يشعر المشاهد بالضيق أو الاشمئزاز من أطفال يستحقون الشفقة لا الازدراء . أيضا في مشهد قتل هنادي في "دعاء الكروان " لم نر نافورة دم مندفعة من جسمها إثر الطعنة، بل لم نر قطرة دم واحدة . فقط رصدت الكاميرا علامات الرعب الممتزج بالألم والمفاجأة والذهول، علي وجهي ووجه والدتنا (أمينة رزق )، فملامحنا كانت تعبر عن الإحساس بالظلم والفجيعة والضعف، بطريقة أعمق من تصوير الدم المراق . هذا ما أقصده بالجمالية . . ليس تزييف الواقع، ولكن تقديمه، مهما كانت قسوته، علي نحو لا يخدش إحساس المشاهد، ولا يجعله لاحقا يأتلف مع الدمامة والدم . عود علي بدء هذه حكاية شيرلي تمبل العربية. وبالمناسبة فتشبيهنا هذا لفاتن لا يأتي خبط عشواء، فقد قال المخرج الرائد محمد كريم في حينه: لو عهدنا بفاتن إلي المدرسين والمدربين في الموسيقي والرقص وغيرهما من الفنون، التي كانت شيرلي تمبل تدرسها في هوليوود، لكانت طفلة السينما الأولي في العالم. لقد كان نبوغها منقطع النظير... في اليوم الذي أكملت آخر لقطة في "يوم سعيد" شعرت بحزن وأسي، فقد أيقنت وأيقن الجميع أننا إزاء موهبة، وأن علينا أن نستغل هذه الموهبة، فأشرت علي عبدالوهاب أن يتبناها فنيا، وفعلا تعاقد معها لمدة سنتين بمرتب شهري. ولكن للأسف لم تظهر الطفلة العبقرية فاتن في السينما، ومضت الطفولة الرائعة كطيف جميل، دون أن يعتني أحد بإظهارها، حتي عبدالوهاب الذي تعاقد معها. وعود علي بدء يطرح السؤال نفسه: تري كم طفلة عربية بإمكانها أن تكون لا شيرلي تمبل فقط وإنما ماري كوري وفالنتينا تريشكوفا وأنديرا غاندي وأم كلثوم و...، فقط لو وجدت الفرصة والتنشئة والظروف المناسبة؟