في عام 2000 استطاع المخرج البريطاني (جوناثان جلايزر) لفت الأنظار له كمخرج سينمائي واعد عندما قدم فيلمه الشهير (Sexy Beast ) والذي قام ببطولته كل من (راي وينستون) و(بين كينجسلي) وجاء هذا بعد أن أخذ (جلايزر) شهرته الحقيقية كمخرج اعلانات وأغان مصورة مهم. وبعد هذا النجاح كانت تواتي (جلايزر) فكرة فيلم قائم عن الحب الأبدي الذي لا يفرقه الموت وظلت هذه الفكرة مستمرة معه الي أن تعرف علي السيناريست الفرنسي الشهير (جان كلود كارييه) الذي كتب مع (لويس بونويل) بعضا من أشهر أفلامه مثل (حسناء النهار سحر البرجوازية الخفي وشبح الحرية) ومع (كارييه) الذي كان بمثابة المستشار الفني للكتابة وبمشاركة الكاتب (مايلو أديسا) صاحب فيلم (Monster's ball) استطاع (جلايزر) أن يستلهم من هذه الفكرة سيناريو متكاملا ومختلفا وأصيلا باسم (ميلاد Birth ) ونظرا لنجاحه السابق كان من الطبيعي أن يتبني مشروع (جلايزر) ستوديو مثل (نيو لاين) وأن تسعي نجمة معروفة وممثلة مهمة مثل (نيكول كيدمان) لكي تكون بطلته. الفيلم ببساطة يحكي قصة امرأة تستعد للخطوبة بعد عشرة سنين من وفاة زوجها السابق ويظهر لها طفل في العاشرة من عمره يقول لها إنه زوجها الراحل ويستشهد بذكريات قديمة كانت تجمعهما بل ويحثها علي ألا تتزوج بخطيبها! عرض (ميلاد) لأول مرة في اطار المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية (فينيس) السينمائي الدولي عام 2004، وعلي الرغم من الاشادة بأداء (كيدمان) وأسلوب (جلايزر) وفنيات الفيلم المرتفعة ككل الا أن الفيلم هوجم بقسوة عند عرضه نظرا لغرابة الفكرة. وحتي مع ترشيح (نيكول كيدمان) فيما بعد لجائزة افضل ممثلة في جوائز (الكرة الذهبية) عن دورها في الفيلم الا انه عند عرض الفيلم تجاريا لم يلاق نجاحا يذكر أو ترحيبا نقديا حقيقيا. وكنت قد شاهدت الفيلم لأول مرة عندما عرض في الصالات المصرية تحت اسم (عودة الحياة) عام 2005 ولكني وجدت هذا الفيلم يطاردني بمشاهده وحالته وموسيقاه الا ان نجحت في الحصول علي نسخة أصلية منه لأجد نفسي أعيد اكتشاف هذا الفيلم البديع كل عام. وفي الحقيقة أري ان هذا الفيلم قد وقع عليه ظلما بينا من ناحية النقاد الذين لم يبذلوا المجهود الكافي في قراءة هذا الفيلم متعدد المستويات وهذا الظلم ادي الي أن الفيلم أصبح من الصعب العثور عليه وتجد الآن قلة هم من رأوه برغم من حداثته، وسأسعي هنا الي تقديم قراءة لهذا الفيلم الذي لم يأخذ حظه مع التنبيه اني سأروي بعض التفاصيل التي قد تفسد متعة المشاهدة الأولي. نفق مظلم الفيلم يبدأ بمقطع صوتي ل(شون) دون أن نراه وهو يعطي محاضرة ويعطي فيها مثلا قائلا "اذا توفيت زوجتي ثم جاءني طير بعد ذلك يقول لي إنه زوجتي أعتقد سأصدقه لكن بعيدا عن ذلك أنا لا أؤمن بتناسخ الأرواح أو بالغيبيات بصفة عامة". ثم نري بعد ذلك هذا المتكلم من ظهره وهو يجري في حديقة مانهاتن في الشتاء ثم يدخل في "نفق مظلم ويسقط نتيجة سكتة قلبية ويموت ثم نري في اللقطة التالية طفلاً وهو يولد تحت الماء. تمر عشر سنوات ونري أرملة هذا الرجل "آنا" (كيدمان) وهي تزور قبره في الوقت التي تستعد فيه لخطبة رجلا آخر "جوزيف" (داني هيسوتن). وفي حفل الخطوبة يصل الي الحفل صديق زوجها الراحل "كليفورد" وزوجته "كلارا" (آن هايتشي) لكن تتركه كلارا بحجة أنها نسيت أن تلف هدية الخطوبة ولكنها تترك المبني لتذهب للحديقة لتدفن شيئا ما ونري طفل في العاشرة من عمره يتبعها دون أن تراه. وأثناء محاولة "آنا" للاستمتاع بالوضع الجديد والتغلب علي أحزانها يظهر هذا الطفل (كاميرون برايت) في احتفال صغير بعيد ميلاد أمه (لورين بيكال) ليقول لها إنه زوجها الراحل "شون" وإنها ستخطئ اذا تزوجت "جوزيف". تكتشف "آنا" أنه بالفعل اسمه "شون" وانه ابن لأحد المدرسين الخصوصيين لأحد سكان المبني الذي تسكنه "آنا" وأنه من منطقة أفقر في نيويروك علي عكس "آنا" وعائلتها الثرية سكان جزيرة مانهاتن. لكن يعاود الطفل "شون" الاتصال بها طالبا منها أن تقابله في الحديقة في المكان الذي توفي فيه وعندما تقابله وهي في حالة حيرة وعدم تصديق يطلب منها أن تسأله في أي شيء كي تصدقه وبالفعل ترسل له زوج أختها الطبيب ليستجوبه وبالفعل يبدأ في حكي تفاصيل دقيقة في العلاقة تدهش الجميع. تدعو "آنا" والدة "شون" ان تجلبه ليبات عندها يومين زاعمة انها ستستطيع فك هذه "اللعنة" التي أصابته مخفية شعورها الحقيقي بالشوق والحب لزوجها الراحل التي لم تستطع قط تجاوزه. وعندما تقترب من "شون" أكثر ويبدأ هو في ملاطفاتها باشارات بسيطة تبدأ في تصديقه رويدا رويدا الأمر الذي يزعج خطيبها ويجعله يتعامل مع هذا الطفل بعنف ويترك منزل "آنا" التي باتت مقتنعة أن زوجها عاد اليها. يعود "كليفورد" وزوجته "كلارا" ليقابلا هذا الزوج المزعوم وتواجه "كلارا" الطفل بأنه لو كان "شون" لكان جاءها أولا لأنها كانت حبه الحقيقي وأنها كان يعطيها كل جوابات الحب التي كتبها ل"آنا" كدليل علي اخلاصه لها وأنها كانت تنتوي أن تعيدهم ل"آنا" في حفل خطوبتها قبل أن تغير رأيها وتدفنهم في الحديقة وتشتري هدية أخري هذه الجوابات التي عثر عليها الطفل "شون" عندما كان يتبع "كلارا". يصدم الطفل من كلام "كلارا" ويجري بعيدا قبل ان تعثر عليه "كيدمان" وعندها يقول لها إنه ظن انه "شون" ولكنه لا يمكن أن يكون كذلك لأنه يحبها بالفعل. تنفعل "آنا" بشدة وتصفه بالطفل الكاذب وتعود لخطيبها لكن في حفل الزفاف تحاول الانتحار غرقا في البحر قبل ان ينقذها خطيبها "جوزيف" في النهاية. أكثرمن تفسير تحتمل نهاية الفيلم تفسيرين وربما أكثر التفسير الأول أن هذا الطفل كان يكذب بالفعل وأنه عرف ما عرفه من تفاصيل من خلال الجوابات التي قرأها وأنه كان مجرد يعبث مع هذه العائلة. أما التفسير الثاني والذي أميل اليه شخصيا أنه بناء علي منطق الفيلم خصوصا مع مشهد الولادة الذي تلي مشهد موت "شون" أن هذا الطفل بالفعل يحمل روح "شون" وأنه عندما شاهد "كلارا" وقرأ الجوابات تذكر علاقته ب"آنا" وحبه لها لكن عندما اكتشف جزءا من حياته السابقة اراد أن يمحوه وهو علاقته بزوجة أعز اصدقائه رفض هذا الاستنساخ ولم يتصالح مع نفسه وترك حياة "شون" السابقة الملوثة بهذه الخيانة. وفي كل الأحوال مات تأكدنا منه هو أن "شون" كان يخون "آنا" و هو الأمر الذي كان مفاجئاً في حد ذاته فنحن نظل طوال الساعة الأولي من الفيلم (مدة الفيلم 95 دقيقة) نري عشقا شديدا من "آنا" لذكري زوجها الراحل والتي لم يخطر ببالها في الطبع أنه كان يخونها في يوم من الأيام وبعد أن يقر الطفل أنه ليس الزوج الراحل تعترف له أم "آنا" أنها لم تحب يوما "شون" في اشارة أنها كانت لا تثق به وربما استشفت أنه كان يخون ابنتها. فنحن لا نري أبدا علاقة "آنا" ب"شون" التي نظل نسمع عنها طوال الفيلم ونري لها تصوراً شاعرياً وكل هذا من وجهة نظر "آنا" في علاقة قد تكون كانت مبنية علي كذبة أو خديعة الامر الذي لا تعرفه "آنا" حتي نهاية الفيلم. لكن منذ البداية نراها وهي غير مستريحة في علاقتها الجديدة وشاردة في ذكريات زوجها الراحل طوال الوقت. قد يصنف البعض الفيلم أنه من أفلام الخوارق ولكنه أقرب لكي يكون تساؤلاً أو افتراضاً والفيلم بالفعل يطرح أسئلة اكثر مما يجيب وتعامل المخرج (جوناثان جلايزر) مع هذا الموضوع بحساسية شديدة فلم يسقط في كلاشيهات أفلام التشويق بل صنع حالة من الترقب مع أصالة في الجو العام للفيلم وايقاع هادئ بطيء رغم عدم بطء سرعة الأحداث نفسها. ولكن (جلايزر) لم ينجح وحده في أن يجعل لهذا الفيلم مذاقاً خاصاً ومختلفاً وحالة متجانسة من كل العناصر. فلولا وجود (هاريس سافاديس) كمدير تصوير للفيلم لكان الفيلم قد فقد الكثير من تميزه فهو تجانس مع أسلوب (جلايزر) واستطاع من خلال الاضاءة ودرجات الألوان في ألا يخرج المتفرج من عالم واحساس الفيلم الخاص الذي "يكاد يشبه" العالم الحقيقي وهو تميز ليس غريبا عليه فهو من قام بتصوير اعمال رائعة مثل Elephant) Last Days (zodiac& أضف الي ذلك الموسيقي الساحرة التي وضعها الفرنسي الشهير (أليكساندر ديسبلات) والذي نال شهرة أكبر وترشيحات للأوسكار فيما بعد من خلال أعماله في أفلام (the king's speech the curious case of Benjamin Button & The tree of life ) لكن في رأيي أن الموسيقي التي وضعها (ديسبلات) في فيلم (ميلاد) هي أهم انجاز له علي الاطلاق ربما تم تجاهله مع تجاهل الفيلم نفسه فالي جانب أن الموسيقي في حد ذاتها رائعة ولا تنسي لكن أهميتها في الفيلم لم تقل عن أهمية التصوير من خلال الحالة الميتافيزيقية التي فرضتها مع بعض التيمات التي تشبه موسيقي الاطفال التي تذكر المتفرج بانه يشاهد طفلا. أما علي مستوي التمثيل ف(نيكول كيدمان) هنا في أحد أفضل ادوارها علي الاطلاق فلم تنفلت منها قط خيوط هذه الشخصية المضطربة التي يزداد اضطرابها واختلاط مشاعرها مع تقدم الأحداث. أما الطفل آنذاك (داني هيوستن) فبرغم من انه كان قد انتشر في أدوار هوليوودية نمطية إلا انه تمكن هنا من اداء دور هذا الطفل الواثق الذي يتكلم كالكبار ليندهش منه المتفرج كما تندهش شخصيات الفيلم هذا بالإضافة الي أداء رائع من القديرة (لورين بيكال). الفيلم حالة فريدة وسواء أحببته أم لا ستجد أنه من الصعب نسيانه وربما تعاود مشاهدته مرة أخري وأعتقد أنه كما حدث مع أفلام كثيرة ممكن أن يعاد اكتشاف هذا الفيلم مرة أخري ويتحول لمرجعية سينمائية وربما يستطيع فيلم (جوناثان جلايزر) القادم (تحت الجلد under the skin ) والذي تقوم ببطولته (سكارليت جوهانسون) ان يعيد لفت الأنظار له كمخرج وأتمني أن يكون في مستوي تميز فيلم (ميلاد).