أقامت وزارة الدولة لشؤون الآثار، منذ أيام حفل تأبين للعالم الأثري الدكتور جاب الله علي جاب الله، الأمين العام السابق للمجلس الأعلي للآثار بقاعة أحمد باشا كمال بالزمالك. تحدث في الحفل زملاء وتلاميذ العالم الكبير، عن مشوار حياته، وريادته في علم الآثار، وما تركه من كنوز أثرية من كتب ونظريات تُعد نبراساً للعاملين في المجال الأثري. وأكد الدكتور محمد إبراهيم، وزير الآثار، أن الحفل الذي أقامته الوزارة ليس حفل تأبين، لكنه كان حفلا لتكريم شخصية أثرت الحياة الأثرية بعلمه وخلقه، وكان مثلاً أعلي يحتذي به لما تمتع به من علم غزير وخلق رفيع ونشاط محلي ودولي في مجالات الأثار المختلفة علي مستوي العالم. كما أصدر اتحاد الأثريين المصريين تحت التأسيس ورئيسه الدكتور عبدالحليم نور الدين بيانًا نعي فيه المرحوم الدكتور جاب الله علي جاب الله عالم المصريات المعروف وصاحب الإنجازات في مجال التاريخ والآثار والأمين العام الأسبق للمجلس الأعلي للآثار. من جانبه قال د. عبدالحليم نور الدين انه كان رفيق وزميل العمر، ووفاته خسارة كبيرة لعلم المصريات ولزملائه وأصدقائه وتلاميذه في كل مكان تولي فيه العمل الأثري وندعو له بالرحمة والغفران وللأسرة خالص العزاء. وبذلك يغيب عن المشهد الأثري في مصر والوطن العربي والعالم أجمع واحد من أنبغ علماء مصر والعالم في علم الآثار المصرية القديمة وتاريخها. بعد صراع استمر لسنوات مع المرض أجري الراحل خلالها عدة عمليات جراحية بالقلب، رحل شيخ علماء الآثار والمصريات والشرق الأدني القديم العالم الجليل الأستاذ الدكتور جاب الله علي جاب الله والذي بعد أول محاضرة حضرها بقسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة .. أيقن الطالب جاب الله علي جاب انه لن يستمر في هذه الدراسة يوما، وعزم علي الانتقال الي قسم آخر، فلما نصحه اساتذته باختيار قسم يضم عددا ضئيلا من الطلاب لكي يظهر ويتعرف عليه اساتذته بسرعة وقع اختياره علي قسم الاثار، لتصدق النصيحة ويتألق د. جاب الله علي جاب الله ويصبح قامة اثرية، ليس فقط علي المستوي الاكاديمي، بل تولي مسئولية اثار مصر لخمس سنوات كأمين عام للمجلس الاعلي للآثار، تبعها بخمس مثلها كمستشار لوزير الثقافة لشئون الاثار.. لقد كان الدكتور جاب الله فيلسوف الأثريين برؤيته المتميزة وقدرته المدهشة علي التحليل والربط بين الحوادث التاريخية المختلفة في مصر والشرق الأدني القديم، وكان موسوعة في مجال تخصصه، وقد شهد الجميع بذلك التفرد وبتلك العبقرية لهذا الأثري الفريد. ولد الدكتور جاب الله في دلتا النيل، وتحديدا في قويسنا في محافظة المنوفية في العقد الرابع من القرن العشرين الميلادي. درس الآثار المصرية القديمة في كلية الآداب في جامعة القاهرة، ثم حصل علي درجة الدكتوراه في المصريات عن رسالته "القص في الفن المصري القديم" من جامعة ليفربول في إنجلترا. ثم عاد إلي مصر ليعمل في جامعة القاهرة ثم أعير إلي دولة الكويت للتدريس هناك ليعود إلي الوطن رئيسا لقسم الآثار المصرية القديمة في كلية الآثار جامعة القاهرة ثم عميدا لها قبل أن يصبح الأمين العام للمجلس الأعلي للآثار لمدة خمس سنوات، ثم مستشارا لوزير الثقافة ورئيس المجلس الأعلي للآثار، وكان رئيسا للجنة الآثار بالمجلس الأعلي للثقافة، وآثر الرجل الصمت والعزلة بعد خروجه من العمل العام، مفضلا أن يقضي ما تبقي من عمره المديد في هدوء وسكينة وتأمل. إنها حقا رحلة طويلة مليئة بالإنجازات والمواقف المشرفة والنشاط العلم والبحثي والميداني الغزير. وامتاز الراحل الكبير بالخلق القويم والأدب الجم وحب ومساعدة الآخرين والحنكة الإدارية والسياسية والدبلوماسية والعدالة والتوازن في أغلب الأمور. لقد كان الدكتور جاب الله واحدا من أكبر علماء تاريخ مصر والشرق الأدني القديم ليس في مصر والعالم العربي فحسب، بل في العالم أجمع، وتشهد بذلك مؤلفاته العلمية العديدة والمتميزة، وكان الرجل محللا للتاريخ والحوادث التاريخية برؤية جديدة ومغايرة ولم يكن تقليديا في شرحه أو في كتابته، وإنما كان دائما ما يبحث عن الجديد والمسكوت عنه بين جنبات التاريخ، وكان الرجل مدافعا عظيما عن مصر وتاريخها وآثارها بشراسة وكان مفاوضا قويا في ذلك الشأن كما تشهد بذلك وقائع عدة يصعب حصرها، وشهد المجلس الأعلي للآثار في عهده عددا من الإنجازات، وأدار منظومة العمل الأثري باقتدار كبير. كما تمتع الدكتور جاب الله علي المستوي الشخصي بروح مرحة للغاية، وساخرة في أغلب الأحيان، ومحبة للآخرين وكان لا يبخل علي تلاميذه وطلاب علمه بأي شيء وكان يساعدهم بأقصي ما يستطيع. وهكذا تسقط ورقة أخري من أوراق شجرة الإبداع المصري التي لن تفتأ بأن تعوضنا خيراً منها رغم صعوبة ذلك.