لم أدرك كثيرا وأنا صغيرة معني أن يكون أبي معروفا ومشهورا عندما صحوت ذات يوم فوجدته كذلك. أعترف الآن أني طالما أخذت موقفا من تلك الشهرة حينما كانت تجير علي حياتي الشخصية فتؤرقها وتبدل حالها. كنا في يوم صيفي حار بالإسكندرية -مسقط رأس أبي- حينما أخترنا أن نذهب إلي منطقة أبي قير بعيدا عن زحام الشواطئ الأخري الممتدة بطول البحر فنأخذ راحتنا نلعب ونلهو بحرية ونتناول وجبة غذاء من السمك الطازج الخارج توا من البحر وبمجرد وصولنا ووضع امتعتنا فوجئنا بسرب من البشر يتجه إلينا شيئًا فشيئًا يحوطنا حتي غاب أبي في وسطه وأفقنا من هول المفاجأة علي صيحات تنادي «يا زعفراني يا زعفراني» وكان أبي وقتها قد عرض له مسلسل «أحلام الفتي الطائر» الذي قدم دورا فيه لفت الانتباه لرجل العصابة الخائب الذي فشل هو وعصابة الفنان جميل راتب في الوصول إلي «إبراهيم الطاير» أو الفنان عادل إمام قبل أن يصل البوليس إليه، وفشلنا أن نُخرج أبي يومها من وسط هذه الجموع الغفيرة لكن فور أن استطعنا ذلك أخذنا نجري بعد أن تركنا سيارتنا نحو قطار أبي قير للحاق به ففوجئنا أن سائق القطار قد تركه أيضا فور رؤيته لأبي مع هذه الجموع التي تطاردنا، يومها عرفت أن أبي قد صار مشهورا وله جمهور ومحبون وإن كنت قد كرهت أن يأخذه هذا بعيدا عنا ولم تكن هذه المرة هي المرة الوحيدة التي أخذ فيها سيد عبدالكريم قلب الناس إلي هذه الدرجة فقد مر الوقت وأنا أكبر لتحدث واقعة أخري لا تقل أهمية عن الأولي بحياة أبي الفنية وكان قد خبأ القدر له أن يحمل اسما آخر صار لامعا معروفا به حتي ودعه جماهيره به وهو اسم زينهم السماحي تلك الشخصية الشعبية التي لمست نبض الشارع بمسلسل «ليالي الحلمية» الشهير ضمن كوكبة متلألئة غير هذا المسلسل أقدارها وقدرها فرُفعوا جميعا إلي مصاف النجوم وكنا مازلنا بالجزء الثاني من المسلسل حيث طلق زينهم السماحي زوجته سماسم، أما أنا وأبي فكنا علي كوبري 6 أكتوبر المؤدي إلي منزلنا حينما وقف الكوبري وتوقفت حركة المرور عليه فإذا بأصحاب السيارات يخرجون من سياراتهم يصيحون صيحات أشبه بسابقتها في أبي قير من قبل «يازينهم رجع سماسم يا زينهم والنبي عشان خاطرنا» وكان رد فعل أبي أن أخرج يده وهو يضحك ويقول: حاضر حكلم المؤلف في الموضوع ده. نهاية الشخصية ودارت الأيام دورتها وجاء الجزء الثالث حيث انتهاء دور زينهم السماحي بموته وكان قبلها قد تعرض والدي إلي أزمة قلبية لم أعرف وقتها أن السر وراءها هو معرفته بموت الشخصية، وقد ظل والدي يحمل تحت عباءته التي كان يرتديها بالمسلسل قسطرة حتي يستطيع أن يكمل مشاهد دوره قبل مشهد وفاته الذي ظل الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة والمخرج إسماعيل عبدالحافظ يؤجلان تصويره بقدر الإمكان لمعرفتهم بمدي تعلق والدي بهذه الشخصية وجاء وقت تصوير المشهد وقام والدي بأدائه وسط زهول كل من حوله به حتي انتهي التصوير فقاموا بالتصفيق له حيث ظل أداؤه لهذا الجزء تحديدا مطبوعا في الوجدان وقبع بعدها والدي في البيت ينتظر رد فعل الجمهور علي أدائه وعلي موت الشخصية فجاء كما توقع حيث انهالت الكتابات الصحفية تلوم الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة علي موت زينهم السماحي خاصة أن نهاية الشخصية الشعبية التي ارتبط بها الناس قد جاء بأحداث المسلسل مواكبة لنصر أكتوبر 1973 وظلت صورة زينهم السماحي هي الصورة الفوتوغرافية الأقرب إليه وسط هذا الكم من الصور الكبيرة المعلقة علي جدران مكتبة بيتنا حيث كان يصر علي التقاط الصور لكل دور يقوم به. حزن أبوي وكنت قد كتبت عن موت زينهم السماحي بمجلة الإذاعة والتليفزيون أنعيها وأرثيها فكان ذلك سببا في أن أصبح صحفية بناء علي نصيحة الكاتبة سكينة فؤاد رئيس التحرير آنذاك بعد أن قرأت ما كتبت بعدها بسنوات أصبحت بالفعل صحفية بعد أن غيرت مجال عملي وجاء موعد نشر أول موضوعاتي باسمي وسألني والدي بماذا سأوقع علي ما سيتم نشره فقلت إيمان عبدالكريم، فسألني لماذا اختذلت اسمي من التوقيع؟! فأجبت «علمتني أن أكون نفسي بعملي فكيف أكون أنا بعملك أنت؟!» فاقتنع ولم يناقشني وإن ظل حزينا لذلك. ومازال النيل يجري بحكاياتي ومواقفي معه فكيف أنسي مثلا كيف علمني أن أختلف معه وقد ترجمت ذلك مرات ومرات فلم يغضب منها هذه المرة التي ضقت فيها بقلة مصروفي فقمت بتكوين جبهة مضادة في البيت من أجل رفع المصروف قمنا فيها أنا وإخوتي بتعليق اللافتات المناهضة لسياسة والدي واحتجاجنا بالإضراب عن الطعام وهددنا بعمل عصيان مدني فتركنا لمدة أسبوع حتي كدنا نموت جوعا وبعدها قرر زيادة المصروف وهو يقول:«كنت عايز أشوف انتوا رجالة فعلا ولا حبة عيال». وكان من الغريب أن يعاملنا أبي طوال الوقت علي أننا رجالة ولكنه كان يبرر ذلك بأنه لم ينجب ولدا، وكان قدرنا أن نحمل صفات الرجال منها تحمل المسئولية وعدم الترنح في الأزمات والوقوف في المواقف الصعبة فكان يقول لنا محفزا «الحصان العربي الأصيل بيشد في المطلع» كما حرص - رحمة الله عليه - أن يعلمنا مجموعة من القيم بصيغ مختلفة فكان يقول «اخش شنوا فإن النعم لا تدوم» ويقولها بمثل شعبي «بيت المهمل بيخرب قبل بيت الظالم» وكان لا ينحني أبدا في أصعب الظروف فأذكر له كيف جاء علينا عيد الفطر المبارك مرة وهو يمر بضائقة مادية قاسية فظل ساهرا طوال الليل يحيك لنا ملابس العيد علي يديه بقطع قماش متناثرة فصنع منها بحسه الفني ومهارته في الرسم وقدرته علي التخيل ملابس عيد وجدناها صباحا جاهزة للارتداء، هكذا مرت الأيام مع أبي لا يضيعها أبدا دون أن يعطينا فيها درسا أو نصيحة أو عبرة وعظة مرة بشكل مباشر ومرات بطرق خفية مستترة في شكل حكايات أشبه بقصص الأطفال التي تحكي قبل النوم وكأنه كان يعدّنا لهذا اليوم الذي يتوفاه الله فيه فلا نجد بجانبنا شخصا أمينا مخلصا ينصح لنا وينصحنا ولم يكن يكلّ أو يتعب فكان يجري وراءنا كلما خاف علينا رغم ثقته بنا فأحيانا ما كنت آراه فجأة أمامي في الجامعة دون موعد ليعرف مع من أقف وكيف أتعامل وماذا أفعل كما كان يمنعنا نحن بناته الأربع أن نضع مساحيق الزينة علي وجوهنا ونحن في طريقنا إلي الجامعة كما تفعل البنات بعد طول فترة من الكبت المدرسي محترما بذلك لمكان العلم وقيمة ما يقدم لنا علي يد أساتذتنا ولم تفتر عزيمة أبي يوما في اعطاء الدروس العملية لنا فأذكر له كيف تركنا ذات يوم ونحن أطفال نلعب ونقوم بإلقاء المراكب والمسدسات الورقية بالشارع من شرفة منزلنا حتي ظللنا نفعل ذلك لمدة ساعات ليطلب منا بعد أن انتهينا أن ننزل إلي الشارع لنقوم بتنظيفه كما تسببنا في عدم نظافته. بستان أبي ومازلت أقطف من البستان الجميل الذي زرعه أبي بداخلي فأحتمي إلي يومي هذا بما قد أعطاه لي وأتبني نظرته للأشياء وأنظر كثيرا إلي ما حولي بمنطقه وإن كنت أخفق كثيرا لأنه من الصعب أن اتقمص شخصيته بهذا القدر الممتلئ بها من الفلسفة والإيمان والإحسان وهذا الكم العالي بها من سمو الأخلاق والتعالي عن الصغائر. لن أستطيع بالفعل مهما سردت ومهما فكرت وحاولت أن أقدم سيرة أبي التي كان يحياها معنا فقد كان رجلا كثير المواهب متعدد الأدوار مختلف الروئ فهو الإنسان والأب والمربي وأستاذ الجامعة والفنان ومن الصعب جدا وخاصة في هذا التوقيت بعد وفاته مباشرة أن أغوص أكثر في مشاهدي معه لأترجمها إلي كتابة للنشر وإن كان شريط الذكريات متدفقا نشطا لا يهدأ حتي جعلني أندم علي ما فرطت فيه من أوقات كان من الممكن أن أقضيها معه وتحت قدميه. رحم الله أبي وليسامحني فلقد وعدته قبل وفاته أن أكون معه وبجانبه ولا أتركه وخلفت معه وعدي وتركته يسكن بمفرده مقبرته.