أحرص هذه الايام علي متابعة الأفلام المرشحة لجوائز الجولدن جلوب، حيث إن نسبة كبيرة منها سوف تنال ترشيحا جديدا للأوسكار الذي سوف تعلن نتائجه في فبراير القادم! ومن أهم العناصر اللافتة للنظر، والتي تحتاج وقفة طويلة وتأملا، عنصر التمثيل، الذي تشير المتابعات السينمائية، لأن ما نقدمه في أفلامنا أو مسلسلاتنا شيء آخر لاعلاقة له بهذا الفن الجميل! فنحن نعتمد علي مدارس في الأداء عفي عليها الزمن، ولا اعرف إن كان معهد الفنون المسرحية، يتعامل مع الأساليب الحديثة أم الكلاسيكية؟، ولكن أغلب الظن أن مناهج الدراسة لم يتم تحديثها منذ زمن بعيد يعود الي الستينيات من القرن الفائت، لأن معظم خريجي المعهد لم يظهر بينهم أي حالات تدعو للتفاؤل، والثقة أننا نسير في الطريق الصحيح. وإذا دعتك الظروف لمناقشة أحد خريجي المعهد من نجوم هذه الأيام، فسوف يصدمك مستوي ثقافته الفنية، فبعضهم يزهو بأنه لايتابع السينما، لضيق الوقت، ولا يشاهد ما يعرضه التليفزيون من مسلسلات عربية أو أجنبية، ولايهتم حتي بقراءة ما يكتب في الجرائد بهذا الشأن! وكان لي نقاش مع واحدة من ممثلات هذا الجيل، كاد يدفعني للجنون أو علي الأقل لترك مهنة كتابة السيناريو، حيث فاجأتني بتعليقها علي أحد الأدوار المعروضة عليها، بأنه دور يخلو من التمثيل !!وهي تريد أن تمثل! ولما سألتها ببراءة أن توضح لي ماتقصده بالضبط من قولها عايزة أمثل، جاءت إجابتها يعني دور يكون فيه انفعالات كتير، ابقي مظلومة أو حد بيعذبني، أو حتي أكون مريضة وبحاول اخفي حالتي عن أقرب من حولي، أو يكون فيه حد بيدبر لي مؤامرة، أو أكون بخفي سر معذبني، مواقف جامدة تخليني أمثل، وأستعرض موهبتي!!ووجدتني أرد ببديهة أشك أنها استوعبتها، وقلت لها عزيزتي بمجرد أن تقفي أمام الكاميرا، تجسدين شخصية غير حقيقتك، ولها اسم غير اسمك ووظيفة غير وظيفتك، وخلفيتها الاجتماعية أو الاقتصادية أو النفسية تختلف عنك، يبقي كدة إنتي بتمثلي حتي لو المشهد لواحدة بتشرب فنجان شاي! لإنك في هذا الحالة لن تكوني أنت، بل امرأة اخري تتحرك علي الشاشة! أسلوب أداء تلك المقدمة كان لابد من طرحها قبل أن أتحدث إليكم عن أسلوب أداء إحدي المرشحات لجائزة الجولدن جلوب، كأفضل ممثلة في فيلم كوميدي وهي تشارليزز ثيرون"37 سنة" التي سبق لها الحصول علي الأوسكار في عام 2004 عن فيلم "الوحش"، أما الفيلم المرشحة عنه هذا العام فهو" الناضجون الصغار" YOUNG ADULTS للمخرج" جاسون ريتمان"، حكاية الفيلم بسيطة جدا، ليس بها أية تعقيدات أو انقلابات صاخبة، كاتبة روايات، وسيناريست من الباطن لمسلسل شهير، مطلقة وتعيش بمفردها في شقة فاخرة، مع كلبها المدلل، حياتها سلسلة من الملل والروتين اليومي، تستيقظ في الصباح تجلس أمام جهاز اللاب توب، تكتب مقاطع في الكتاب الذي تؤلفه، تذهب للمطبخ تشرب كميات كبيرة من المياه الغازية، تتجول في الشوارع بلاهدف، تتابع واجهات المحلات، تذهب للكوافير، تسلم قدميها "للباديكيرست" تغير ألوان طلاء أظافرها من حين لآخر، تبدو وكأنها تتحرك في فراغ مرعب، تصلها في صباح أحد الأيام، رسالة علي بريدها الالكتروني تحمل صورة طفل حديث الولادة، واضح انها ارسلت لعدد كبير من الأصدقاء، والرسالة صادرة من "بادي"، الحبيب السابق "لمافيس"، يعلن عن استقباله وزوجته، لأول طفلة في حياتهما، يبدو أن صورة الطفلة تحرك الحنين لقصة الحب التي عاشتها "مافيس" أيام الدراسة "لبادي"، تقرر "مافيس" العودة إلي بلدتها الصغيرة، التي تركتها من سنوات، سعياً للشهرة والنجاح، حتي تلتقي "ببادي" وتستعيد معه قصة حبهما، فهي لم تستطع ان تتخلص من حنينها له، رغم كل سنوات البعاد، متجاهلة تماما أن للرجل حياة زوجية مستقرة! وتتصل مافيس بحبيبها القديم وتخبره أنها عادت للاحتفال بعيد ميلاد طفلته الصغيرة، ويستقبلها الرجل ببراءة كصديقة قديمة ويعرفها علي زوجته، التي بدت مبهورة بزيارة كاتبة مشهورة وجميلة مثل مافيس لمنزلها المتواضع، وهي لاتدري ان الزائرة تخطط لخطف زوجها، وتدمير استقرارها، وتحاول مافيس بكل ما أوتيت أن تعيد صديقها القديم لحظيرتها، وتنطلق منها كل نوازع الأنانية، ولكن بادي يصدمها عندما يعترف لها أنه من يفكر في دعوتها لحفل عيد ميلاد طفلته ولكن زوجته هي التي فعلت، ثم ينتهي به الامر بطردها من المنزل بعد محاولتها إغوائه، فتنفجر فيه أمام ضيوفه بأنها كانت تستحق ان تكون زوجته، وأن تكون أما لطفلته، ويبلغ بها الارتباك مداه فتلقي بنفسها في فراش آخر رجل يمكن أن يخطر ببالها، وهو صديق قديم تعرض لحادث إصابة بشلل وعاهة دائمة، وبعد كل هذا الاضطراب الذي تحدثه نتيجة أنانيتها ورغبتها في الحصول علي مالا تستحقه تقرر ترك البلدة وتعود من حيث أتت، ولكنها تدرك أنها تمتلك مميزات تجعلها محل حسد الآخرين، غير أنها الوحيدة التي لم تكن تؤمن بما لديها، إنها تتقدم بالعمر ولكن لاتزال تحمل نفسية فتاة مراهقة لم تنضج بعد! فراغ عاطفي تمر مشاهد الفيلم بلا أي صدمات أو صراعات، مجرد مشاهد متتالية لإمرأة وحيدة تعاني من فراغ عاطفي واضح، وقد يعتقد البعض أن تلك المشاهد لاتحتاج الي ممثلة محترفة، ولكن قدرة "شارليز ثيرون" علي أداء المشاهد أو المواقف الخالية من المشاعر ربما تكون أكثر صعوبة وتعقيداً من مواقف مليئة بالصدام، إنها تعيش حالة الخواء النفسي بكل تفاصيلها، وحتي قبل ان تصل الأحداث الي نقطة الذروة، يصل الي المشاهد حالة ان الشخصية التي تتحرك أمامه علي الشاشة تعاني أزمة ما سوف تصل بها حتماً الي لحظة صدام، تكتشف فيها حقيقة نفسها! وهذا هو التمثيل الذي استحقت علي شارليز ثيرون الترشح لجائزة أفضل ممثلة، وليت من يحترفون التمثيل عندنا يتابعون هذه الافلام من باب التعلم وإدراك ان فن الأداء التمثيلي شيء آخر تماماً عما يقدمونه لنا!