أن تصمد مجلة ثقافية لمدة سبعة وعشرين عاما - وهي تصدر في ظروف اقتصادية صعبة أمر يدعو للدهشة والتقدير، وهذا ما فعلته «أدب ونقد» وبما أصدرته من أعداد تجاوزت الثلاثمائة، ناقشت خلالها قضايا فكرية وأدبية متنوعة، راهنت فيها علي دور المثقف التنويري في واقع تسوده الظلامية، والوجوه المتعددة للثقافة التبريرية ولم تكتف بدور الراصد والمحلل للقضايا الفكرية ذات الأبعاد الاجتماعية فقط التي تؤثر في ذاكرة الوطن ومستقبله، بل راحت تدافع من منطلق فكري ثابت عن حرية التعبير بجميع مستوياتها. وهذا ما أخذته علي عاتقها منذ عددها الأول الصادر في يناير 1984 برئاسة تحرير د. الطاهر أحمد مكي والذي أكد في أول افتتاحية للمجلة علي الدور المنوط بها قائلا: تصدر هذه المجلة في لحظة حاسمة من تاريخ حياتنا، نحن فيها علي حافة أيام مضت أجدبت الثقافة، وجفت ينابيع الإبداع، وران الركود علي العقول، ومالت الأقلام إلي الدعة وبدا كأن كل شيء قد استكان إلي غفوة طويلة وعميقة، لن تجيء اليقظة منها إلا بعد سنين. وزاد من هول ما حدث مصادرة حرية التعبير والقول، ووأد حركة الإبداع والفكر، واضطهاد الكتاب والمثقفين والتضييق علي كل صاحب قلم شريف ورأي حر، لا يبيع قلمه في سوق النخاسة القائمة، ولا يتحول إلي رقم في زفة النفاق والمنافقين، والاضطهاد ألوان، والتضييق فنون، يبدأ بالمحاربة في الرزق، وإغلاق المنافذ أمام الكاتب في ساحة القول، وينتهي بالسجن والاعتقال والتعذيب، وأي حركة تستهدف بعث الحياة الثقافية في وطننا عليها أن تقف في الجانب المواجه لهذه المعوقات تقاومها، وتدعو الآخرين إلي مقاومتها لأنها الخطوة الأولي نحو حياة ثقافية حقيقية مزدهرة وجادة، وذات نتائج فعالة في إحياء أمتنا. وأعتقد أن المجلة حققت ما وعدت به في افتتاحيتها الأولي من خلال مواقفها الواضحة في الدفاع عن حرية التعبير، ومن منا ينسي موقفها من قضية «نصر حامد أبو زيد» بإصدارها أكثر من ملف، مؤكدة ضرورة العودة إلي المنهج العلمي في تحليل الأمور والتصدي لكل موجات الإرهاب الفكري الذي يعتمد علي التكفير وترويع الآمنين، ومصادرة الأفكار الحرة حتي قبل ولادتها، قاصدة بذلك أن ينظر المجتمع إلي الحياة من ثقب إبرة مسدود، وليكن مصيره المحتوم التخبط في الجهل والغوغائية التي لا تنتج سوي أجيال لا تعرف من الحرية إلا اسمها، ومن الثقافة إلا عشوائية الرؤية. وقد حاولت «أدب ونقد» أن تقف في وجه الركود الثقافي الذي تعانيه المؤسسة - بجميع مسمياتها- ونذكر من ذلك العدد الذي أصدرته عن «أزمة الفكر التربوي» في مصر ، مؤكدة من خلاله أهمية تطوير مناهج التعليم باعتبارها اللبنة الرئيسية في بناء المجتمع المصري. وكذلك وقفت بجوار الشاعر الراحل محمد عفيفي مطر حين تم اعتقاله بعد حرب الخلية الأولي، ومن خلال عددين أصدرتهما المجلة عن «مطر» أكدت أن الكلمة أكبر من المصادرة وأن الحرية وإن غابت - قليلا- أو حاول البعض تغييبها هي جزء لا يتجزأ من الوجود الإنساني. مواقف ثابتة ولم يتغير موقفها يوما من الأيام، بل ظلت كالشجرة المثمرة - دائما- بطرحها للقضايا الشائكة والمسكوت عنها. وكذلك كان موقفها من «حادثة الوليمة» التي أثارتها رواية حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر» نشرت ملفا تحت عنوان «وليمة الحرية علي مائدة التطرف»، وشاركت بندوتها الفكرية في مايو عام 2000 والتي شارك فيها عدد كبير من مثقفي مصر علي اختلاف توجهاتهم الفكرية والسياسية، وكان لها السبق في ذلك حيث امتنعت كثير من المؤسسات الثقافية وتحرجت من إقامة هذه الندوة إما تخوفا - من بعضها - أو لاتخاذ موقف الحياد من البعض الآخر. وبالفعل كانت الندوة مثيرة للجدل وشائكة المنحي إلا أن المجلة - ورئيسة تحريرها وقتها الناقدة فريدة النقاش- قادتها بثقة حتي وصلت بها إلي بر النجاح. ولعل من النقاط المهمة والتي تحسب للمجلة تخصيص ملزمة كاملة تزيد أحيانا في كل عدد تحت عنوان «الديوان الصغير» التي تعد إضافة حقيقية للصحافة الأدبية- لم تكن مسوقة من قبل - بل إن بعض المطبوعات الثقافية قامت بتقليدها. ومن خلال «الديوان الصغير» نشرت «أدب ونقد» من الأدب الإنساني الرفيع من جميع أقطار العالم، حيث لم ترتبط بمكان معين أو مترجم معين بل اتسعت الآفاق لتنثر نماذج من الأدب الإفريقي والأدب الروسي والأدب الهندوسي والشعر الأفغاني، وسلطت الضوء علي أدبيات منسية في الحركة الثقافية العالمية. حالة خاصة وتجاوزت إبداعات الشباب الذين ينشرون لأول مرة- وكانت المجلة البوابة الحقيقية لدخول الحركة الثقافية والأدبية المصرية - مع إسهامات كبار مفكري الأمة وأدبائها أمثال إدوار سعيد وصادق جلال ومحمود أمين العالم ورجاء النقاش ود.عبدالعظيم أنيس ود.عبدالقادر القط ود.عبدالمنعم تليمة وصلاح عيسي ومحمود درويش ويوسف إدريس وجمال الغيطاني وعبدالرحمن الأبنودي وأحمد عبدالمعطي حجازي وعبدالعزيز المقالح وقاسم حداد وأمل دنقل وسيد حجاب وغيرهم. وهكذا شكلت «أدب ونقد» حالة خاصة وفريدة في تاريخ الصحافة الثقافية المصرية بحفرها في العمق بحثا عن الحقيقي والجوهري. أما علي المستوي الشخصي - وقد تلظيت بنارها واكتويت بحبها- فأرادها تشبه كثيرا اشجار قريتي في بساطتها وظلها الوريف، تمكنت من نفسي لتسكن في جزء خاص من روحي كأنها حبيبتي الأولي التي ألقت سهم الهوي في أرضي اليابسة ثم ذهبت مسرعة إلي ظلال الذاكرة. «أدب ونقد» التي وصفها صديقي وزميلي الشاعر حلمي سالم - رئيس تحريرها - ب«البسيطة المتعففة عن الدنايا» تعاني - كثيرا الآن- تبحث عن طاقة نور للحياة، وهي واهبة النور لكثير من المواهب الثقافية التي أصبحت الآن ملء السمع والبصر. المجلة التي سعت جاهدة إلي «التنوير» في عصر الظلام بحاجة الآن إلي كل المحبين، فالثورة بحاجة إلي مثل هذه النافذة فالمستقبل يكمن في ازدهار الوعي لا إلغائه.