أغنية وطنية واحدة صنعت مجد وشهرة واسم هذا الفنان، أغنية لم يتطرق فيها إلي الزعامة أو الثورة أو أمجاد الوطن، أغنية تحمل ملامحه- وربما ملامح الوطن كله.. حقا هي كلمات قليلة لكنها في غاية الصدق والبساطة خاطب بها بيوت السويس، لم يكن «محمد حمام» في تلك الأغنية يسعي لإثارة حماس الجماهير لكنه كان يحكي في ثقة وإيمان كامل.. كيف ستعود السويس إلي حضن الوطن الأم وكيف سيعاود أهلها حياتهم اليومية الآمنة عقب نصر قريب أكيد. ليل الهزيمة لذا فقد راح محمد حمام يجلجل بصوته وسط سكون ليل الهزيمة الطويل صائحا ومرددا «يا بيوت السويس.. يا بيوت مدينتي أستشهد تحتك وتعيشي إنتي هيلا هيلا هيلا- يا للا يا بلديا شمر دراعاتك، الدنيا آهية.. وان ضاع الفجر في سوق المنية. رفاقه حتروح السوق تبيعه ونعود ونغني ع السمسمية ليكي يا بلدنا يا للي صمدتي يا بيوت السويس.. يا بيوت مدينتي». هذا هو المغني الشاعر والمهندس المعماري «محمد سيد محمد إبراهيم» الشهير ب«محمد حمام» المولود في الثالث من نوفمبر 1935 والراحل في 26 فبراير 2007 صورة لملحمة كفاح وإبداع وتضحية في سبيل الوطن الذي آمن برسالة تحريره وتحقيق العدل بين أبنائه- فكان الثمن خمس سنوات متصلة قضاها في مطلع شبابه بين المعتقلات والسجون بلا جريمة- مع كوكبة من رموز النضال الوطني ومن المبدعين والمثقفين المصريين، وما ان أفرج عنه عام 1964 حتي عاد لاستكمال دراسته بكلية الفنون الجميلة إلي أن تخرج عام 1967 . المهندس المناضل كان صوت محمد حمام نسيجا فريدا من الرقة والنعومة.. يترقرق منسابا كتيار نهر النيل الذي تفتح عليه وعيه طفلا صغيرا بإحدي قري النوبة بجزيرة تقع أمام مدينة أسوان اسمها «الفتية» وبقدر ما حمله هذا الصوت من حزن وشجن، فقد كان مليئا بطاقة من الحب للحياة وللحرية والسلام، لهذا دخل قلوب كل المصريين من خلال أغنياته ومقدمات المسلسلات الإذاعية والتليفزيونية الشهيرة التي غناها وبالرغم من شهرته التي حققها كمغن علي مستوي مصر والعالم العربي وأوروبا حيث في 200 مهرجان دولي للأغنية فإن ذلك لم يصرفه عن حبه لفن العمارة- بل اعتبره المورد الرئيسي لرزقه، فيما جعل الغناء هوايته وعشقه- وليس لأغراض مادية، مما جعله متحررا من شروط السوق ومنحه حرية مطلقة في اختيار أغانيه والشعراء مثل عبدالرحمن الأبنودي ومجدي نجيب والملحنين محمد الموجي وإبراهيم الموجي علي سبيل المثال. هجرة إجبارية وقد دفعته الظروف والتحولات السياسية والاقتصادية في مصر فترة السبعينات من القرن الماضي إلي الابتعاد عنها والعمل بالجزائر كمعماري ومنها سافر إلي فرنسا التي رحبت به كمغن حيث انتشرت أغانيه واشرطته طوال خمس سنوات استمر خلالها يغني للنيل والحب ويدافع عن القضية الفلطسينية وقضايا كل الشعوب وأحلامها بالعدل والسلام والحرية، لكن الحنين إلي حضن الوطن وماء النيل دفعه لأن يشد الرحال إلي مصر في الثمانينات وأن يؤسس مكتبا هندسيا بوسط القاهرة وفي الوقت ذاته استمر في القيام برسالته الوطنية، النبيلة بمواصلة نضاله السياسي كواحد من مؤسسي حزب التجمع التقدمي الوحدوي المؤمنين بمبادئه، لكن سلاحه لتحقيقها لم يكن غير صوته الدافئ وأشعاره الحانية وألحانه العذبة، فكانت جميعها زادا للحالمين بالحرية والعدل والسلام. مجدي نجيب قال عنه: محمد حمام كان يغني من موروثه الجنوبي الذي يفيض شجنا موجعا وكأنه بصوته يبرز هذه الطبيعة المتقلبة طقسا ولونا. كان دائما يحاول كسر بوابة الحزن، يحلم برؤية القمر، لكن القمر أيامها كان محرما عليه العبور فوق الأسوار.. حاولت جاهدا تغيير طريقته في الغناء لنفسه فذهبت إلي الموسيقار محمد الموجي واكتشفت انه يخاف مواجهة الناس فاقترحت ان يعامله كإنسان أولا، بعدها اشتكي من عدم الاستماع لنصائحه الموسيقية وكاد ييأس، وأخيرا وبعد طول عناء أصبح لدينا مشروع مطرب محترف، فقدمناه للأستاذ «فهمي عمر» رئيس الإذاعة في ذلك الوقت، فأعجبه ووافق علي تقديمه في حفل أضواء المدينة بسينما قصر النيل أوائل عام 1968، وعلي المسرح كان خائفا ولكي يداري خوفه وضع يديه في جيوبه وغني وخلفه الفرقة الماسية التي كانت المرة الأولي التي تصاحب مطربا جديدا، فهي أكبر فرقة موسيقية في ذلك الوقت والتي تصاحب عادة عبدالحليم حافظ ونجاة ومحمد عبدالوهاب وعازفيها ضمن فرقة أم كلثوم، لدرجة ان أحمد فؤاد حسن مايسترو الفرقة اعتبر ماحدث نوعا من المغامرة ورغم ارتباكه وخوفه علي المسرح حقق محمد حمام نجاحا في هذه الحفلة فاق كل التوقعات. مقال صحفي يمنعه من الغناء كان الكاتب الكبير «توفيق الحكيم» قد أصدر بيانا سياسيا وقع عليه محمد حمام ضمن مجموعة من السياسيين والشخصيات العامة، وكتب «موسي صبري» رئيس تحرير جريدة الأخبار في ذاك الوقت مقالا في الصفحة الأولي معلقا علي البيان بعنوان «حتي أنت يا حمام» لفت نظر المسئولين، فصدر قرار من الدكتور عبدالقادر حاتم وزير الإعلام في تلك الفترة بمنع محمد حمام من الغناء في الإذاعة والتليفزيون، لكنه لم ييأس فسافر ليواصل الغناء الوطني في ليبيا والعراق واليمن والجزائر وفرنسا، حتي أنهم في فرنسا انتجوا له اسطوانة لأغنيته الشهيرة «بابلو نورودا» للشاعر سمير عبدالباقي وألحان عدلي فخري والتي حققت توزيعات هائلة علي مستوي العالم. وفي الاتحاد السوفييتي أقيم مؤتمر بمدينة كييف عاصمة أوكرانيا عن الأغنية الأفريقية، واختير الفنان محمد حمام لإلقاء كلمة افتتاح المؤتمر. عبدالرحمن الأبنودي قال عنه: محمد حمام مغن يختلف عن أي مغن آخر في مصر لأنه كان أولا شابا مصريا يناضل قضي نحو خمس سنوات في المعتقل بسبب إيمانه بقضية الشعب المصري وهو ما لم يحدث لمطرب آخر ومعني ذلك انه كان يؤمن بأن الغناء يصلح لأن يكون وسيلة نضال، لكن انقطاعاته وابتعاده المتواصل صعبا من شأن المسيرة وتحقيق الهدف الكبير ثم إنه صوت تكمن عبقريته في فطريته أي أنه لم يكن قابلا للقولبة وهو ما يحتاج إليه فن الغناء، فنحن في النهاية نتعامل مع ملحن وفرقة موسيقية وقواعد مستقرة للغناء.. وكان يسخر حين نطرح عليه ذلك، لكن عموما لم يكن الغناء قضية حياة لديه مثل محمد منير الذي يري انه خارج الغناء مجرد شخص عادي فأعطي عمره كله للغناء. أهم أعماله الغنائية يتصور البعض من أولئك الذين يعتقدون أنه صاحب الأغنية الواحدة أو حتي اللون الواحد وأقصد به اللون الوطني، محمد حمام صاحب تاريخ ناصع البياض كتب له عبدالرحيم منصور، عبدالرحمن الأبنودي، مجدي نجيب ولحن له كمال الطويل، محمد الموجي، إبراهيم رجب، حسن نشأت وعدلي فخري وأخرون. وله أغنياته التي حققت أعلي نسبة استماع «يا عم جمال، الأم، يا بيوت السيويس» وكان من أولي أغنياته «يا قلبي طير بشوقك ده الشوق سايب علامة، يا عمري داري خوفك.. داريه بالابتسامة.. العين بتقول سلامة.. وان كان في القلب حاجة يا دوب حبة ملامة، يا ليلي يا ليالي»، والتي استمع إليه فيها ذات يوم الكاتب الصحفي الراحل حسن فؤاد بأتيليه بالقاهرة، فقدمه لصديقه الشاعر مجدي نجيب وكانت بداية المشوار. رحم الله محمد حمام.. الذي قضي حياته مناضلا من أجل الحرية والعدالة - حاملا سلاحه- الغناء للوطن ومن أجل الوطن حتي لو كان الثمن حياته وحريته!!