الغضب نائم في كل رأس وفي كل وجدان مصري لأسباب يعرفها الجميع.. غضب خاص جدا نظرا لتأخر الزواج نتيجة لضعف المرتب.. غضب أكبر منه لبلوغ الشاب ثلاثين عاما دون عمل.. وغضب عامل احيل الي المعاش رغم أنفه.. وغضب فلاحين يشربون من مياه الترعة ويأكلون خضراوات رويت بمياه المجاري.. غضب من صورة عماد الكبير وقد فعل به رجال الشرطة ما لا يمكن لشخص توقعه.. غضب تغذية فضائيات امتد حمق ابن الرئيس إليها فاستعداها وتعالي عليها فصارت مهمتها تغذية الغضب بوقود من قلب مصر فالجزيرة لم تخترع شيئا.. ولم يجد الاعلام سوي تهمة التطبيع مع العدو الاسرائيلي تهمة لها بينما يرتفع علم ذلك العدو في الجيزة بمصر.. غضب لأرواح تاهت في عرض البحر الأحمر بينما هرب صاحب العبارة الي لندن تحت سمع وبصر وبمساعدة رجال مبارك الذي اشتهر بقوله لفلاح في مقابلة مفبركة اوعي تكون بتركب عبارة من اللي بتغرق".. غضب لأجساد تفحمت في قطار وبلغ عددها ما يربو علي الثلاثة آلاف دون أن يحدث ما يشفي الغليل سوي استقالة وزير وتغيير رئيس هيئة السكة الحديد.. غضب بعد وعي واكتشاف كابوسي أن النظام والحكومة يكرهان هذا الشعب ويتعاملون معه باعتباره عبئا ويعيرنا الرئيس بانه يتسول من أجلنا ويتم ترويج المقولة بالأجهزة المختلفة باعتبارنا لا ننتج شيئا ثم نكتشف أننا ندعم الاقتصاد الاسرائيلي والاسباني بالغاز الطبيعي. الغضب في كل مكان غضب الشعب فانفجر في نفسه وارتفع معدل الجريمة وأصبحت كيفية ارتكاب الجرائم ومدي عنفها تؤكد علي رغبة عارمة في ممارسة العنف لأقصي الحدود ..انفجر الشعب في نفسه فاصبح في كل عيد تحرش جماعي بأي أنثي يشاء حظها السيئ أن تخرج من بيتها ..غضب يعجز عن التوجه للمكان الصحيح ولكنه يعرفه جيدًا. فلاحون وعمال وجامعيون وأرباب مهن.. كبار وصغار وشباب.. الجميع ينفجر وكان لابد من توجيه الانفجار لتحريك عربة اسمها "مصر" من حفرة فسد هواؤها وماؤها وترابها وصارت ضارة بكل الكائنات الحية الموجودة فيها .. مصر التي كانت آخر النكت السياسية فيها قبل أحداث يناير الثورية تتحدث عن استدعاء مبارك للشيطان ليطلب منه رأيا يستطيع به أن يكدر الشعب المصري فاقترح الشيطان لكن مبارك سخر منه قائلا إنه فعل هذا الامر من خمسة عشر عاما فاقترح الشطان ثانيا فسخر مبارك مرة أخري مؤكدا أنه فعلها منذ عشرة أعوام واقترح الشيطان الثالثة فسخر مبارك وأمال رأسه علي الشيطان ليقول له ماذا سيفعل.. فصرخ الشيطان قائلا له: حرام عليك! إنه المناخ المثالي اذن لمن يريد أن يحرك شعبا باتجاه تغيير ما سواء كان ثورة أو تغييرا محدودا يستهدف - علي الأقل - وقف قطار التوريث المنطلق بأقصي سرعة والذي تواترت أنباء عن أن وقته المحدد كان شهر مايو الماضي. متفقون سواء كان خروج شباب مصر الشرفاء يوم 25 يناير مقصودا به إزاحة مبارك والقيام بثورة حقيقية أم لا فقد تحققت إزاحة مبارك يوم 11 فبراير وحينها فقط انفجر وعي جديد بكونها ثورة وسواء كان هروب بن علي ديكتاتور تونس هو الذي خلق الامكانية لدي شبابنا بحدوث الأمر لدينا أم لا فقد حدث.. لكن الوعي بالثورة بعد قيامها يؤكد علي عنصرين مهمين أولهما أننا قد نفقد هذه الثورة في الطريق فالفعل الثوري التلقائي عبر التاريخ لم يخلق تغييرا جذريا في أي مجتمع وثانيهما أن الغلبة فيها ستكون للغريزة وليست للوعي وهو ما يرجح ويؤكد مكتسبات التيار الديني. لعل اعتصام الأقباط أمام ماسبيرو بعد الثورة يشير الي حجم الرعب والمفاجأة التي أحدثها وجود ثورة ناجحة شكلا دون أن يصحبها من يتحدث باسمها ويقودها ويحدد ملامحها وملامح المرحلة المقبلة وهو نفسه ما يجعل من سلوك التيارات السياسية المختلفة سواء الليبرلية أو الدينية أقرب للهيستريا فالجميع هنا لا يخافون علي مكتسبات يمكن استعادتها بقدر ما يخافون علي أعناقهم .. وهي صورة مرعبة خلقها سلوك 12 فبراير والتخلي عن الميدان لكنها طبيعة الأمر فلم يخرج القادة الذين حركوا الجموع الا من أجل التخلص من مبارك وجمال وشلته أما النظام الذي خلفته ثورة يوليو فهم أبناؤه ورعاته بل وترتبط مصالحهم به .. مبارك وجمال كانا ابنين لخطيئة ساداتية اختطف فيها القدر أنور السادات قبل أن يجعل من منصور حسن نائبا له مثلما اختطف القدر عبد الناصر قبل أن يقيل أنور السادات! ثورة 25 يناير تسمية لحركة شبه ثورية استطاعت أن تعفي مؤسسات مهمة جدا من حرج الاحتجاج ورفض التوريث وقامت بطرد الوريث بالنيابة عنها واستطاعت أن تحرر الطبقة الوسطي العليا من شيطان يتربص بأي منهم لتصفيته اذا اختلف مع الملكة الأم أو ابنها الصدامي المدلل الموعود بملك مصر وفي الأغلب سوف يطل الفساد برأسه مستقبلا لكن بنسبة معقولة وليس بوقاحة كما كان لكن الأهم أنها علمت الشعب المصري ألا يصمت علي حق له وأن يتحول من ضيف ثقيل غير مرغوب في وجوده الي مواطن له حقوقه ومن متسول لهذه الحقوق الي مطالب بها سواء كانت هذه الحقوق مادية كالعمل والأجر والدعم أو معنوية كالحرية والشفافية أما الديمقراطية فأمر مشكوك فيه حتي إشعار آخر! ويبقي السؤال هل اكتفينا بما أراد أصحاب المصلحة الذين قادونا الي ازاحة كبيرهم الذي انتابه الحمق فأمن بأنه وريث الإله أم أننا نريد ثورة حقيقية؟ هو سؤال يقف في منطقة حرجة جدا حيث تعني الثورة عدم وجود وكلاء لها بل علي الثوار أن يقوموا بتحقيق أهدافهم بأنفسهم وعلي الثوار أن يقوموا بعمل قطيعة تامة مع التاريخ القريب بالتخلص منه ومن كل رموزه واثاره بأسرع وسيلة ممكنة وعلي الثورة أن تقلب الهرم الاجتماعي الاقتصادي ولا تتشدق بطلب الهدوء لجلب الاستثمارات وألا تحتار لستة أشهر كاملة في محاولة للوصول لحد أعلي للأجور بينما تصل بالحد الأدني الي نصف ما نص عليه حكم قضائي .. علي الثورة أن تكون بلا سياسة فالسياسة والأحزاب أكاذيب تصلح في زمن الترف والصراع علي التورتة وليس للإجابة عن سؤال رغيف العيش الذي سرق من المصريين وعلي الثورة قبل أن تبحث عن مرشح محتمل للرئاسة أن تبحث عن معني الدولة وكيف يمكن لأناس مختلفين أن يعيشوا علي أرض واحدة ويختلفوا دون اقصاء أو تهميش أو قتل وعلي أي ثورة أن تتخلص أولا من قادتها الذين ساقوها الي حتفها بينما تحبو بعد زوال الكابوس الرئاسي وهي أمور لن تتحقق بين يوم وليلة ولن تتاح قبل تشكيل حزب ثوري حقيقي يزرع قواعده في مصر الحقيقية حيث كل نجع في الصعيد وكفر في الوجه البحري ومصنع في المدن وعلي الثوار الجادين في تحرير شعبهم أن يكون همهم الأكبر هو الوعي الشعبي بما في صالح الناس علي هذه الأرض ودون "فيس بوك" أو "تويتر" أو حتي فضائيات ينبغي للمناضلين الصادقين أن يذهبوا هناك حيث لا كهرباء ولا ماء ولا شبكة عنكبوتية أما ثورة الطبقة الوسطي العليا. فقد قامت بالشوكة والسكينة واللاب توب وكان وقودها وملح أرضها بسطاء استشهدوا قبل أن يراهم البعض أحياء فيصمهم بالبلطجة أو يقبض عليهم باعتبارهم مشتبها بهم في ظل قانون طوارئ نسيه الثواروهو قدر البسطاء الذي لا يجدي الجدل حوله لكن تصورا أو أملا بات يراوح مكانه حول انفجار الوعي من جديد عبر التحولات التي تمر بها مصر رغم أن معظمها يشبه "الجري في المحل" ويكاد يكون بفعل فاعل لننشغل عن قضايانا الحقيقية بالصراع حول ثوابت عن دولة مدنية أو دينية فمصر هي مصر لا دينية ولا مدنية ولا عسكرية .. هي دولة لكل مواطنيها وليعود الجميع للمصطلحات للتعرف علي ما تعنيه قبل جر المهتمين الي جدل بيزنطي ينسينا أن لقمة العيش الآن أهم من الحديث حول هوية لن نستطيع الحفاظ عليها إلا اذا تحررنا من استعمار أكل العيش في بلاد أقل تحضرا وأقل تقبلا لمصر حرة وحديثة ومستقرة وعادلة.