حلت علينا في الأول من أغسطس الذكري العشرون لرحيل يوسف إدريس أمير القص المولود في 14/5/1927 في قرية البيروم بمحافظة الشرقية، تخرج إدريس في كلية الطب عام 1951، مارس مهنة الطب لبعض الوقت حتي تركها ليتفرغ للكتابة، ورغم ما عرف به إدريس من تميز واتساع جماهيرية في كتابة القصة القصيرة إلا أنه تميز بتشعبه الإبداعي وخوضه في جميع أجناس الأدب، فكتب بجانب القصة، الرواية، والمسرحية، كما كان كاتبا مميزا للمقال، كذلك كانت له اسهاماته في كتابة كتب للنقد الاجتماعي والسياسي أشهرها كان في الرد علي كتاب السادات «البحث عن الذات» فرد عليه بكتاب «البحث عن السادات»، اتخذ إدريس الأدب غاية ووسيلة في آن، فهو غاية جمالية ووسيلة لنقد الواقع اجتماعيا وسياسيا، كذلك إنما هو وسيلة لتحليل الشخصية الإنسانية عامة والمصرية خاصة رسما لملامحها وتحليلا لمكوناتها، وجه إدريس بوصلته الكتابية في أغلب الأحيان شطر المهمشين والبسطاء والكادحين، كما عني بالمناطق الشعبية والريفية، ولم ينس المرأة، فعمد إلي تسليط أضواء كتابته عليها. أرخص ليالي كانت القصة القصيرة هي الوجه الأكثر تألقا وجماهيرية من وجوه إدريس الإبداعية، ربما لمداومته علي نشر قصصه في مختلف الجرائد، جاءت مجموعته القصصية الأولي «أرخص ليالي» لتكون بمثابة أوراق اعتماد لإدريس كاتبا قصصيا له سمته الخاص، وفي هذه المجموعة برز استخدام إدريس للغة تجمع بين وجهي الفصحي اليسيرة والعامية الراقية، فكانت جرأته في أن يفرد مساحة واسعة من بساطه الكتابي لجمل عامية، كما توغلت شبكة إدريس الكتابية لتلتقط حالات الطفولة المهمشة، كما في قصة «نظرة» التي ترصد معاناة طفلة تصارع حفاظا علي أحمال وأثقال تحملها فوق رأسها إذ تعمل خادمة من السقوط خوفا من عقاب سيدتها المؤذي، فتبدو لنا براعة إدريس واقتداره الفذ علي بلورة رؤاه الايديولوجية إذ يجسد معاناة المهمشين وحرمان الطفولة إزاء قسوة الأثرياء وتسلطهم، فتجسد القصة مأساة إنسانية دون أن تقع في بئر الخطابية أو تنغمس في أوحال المباشرة والتقريرية، فتعقد مقارنة عبر مستويين: أولهما رأسي ببيان ما يصم المجتمع من فوارق طبقية، تهدر عدالته الاجتماعية، وثمة بعد آخر أفقي وهو مقارنة الطفلة لحالها بحال اقرانها المتمتعين بطفولتهم يمارسون ما يشاءونه من مرح ولهو طفولي ولعب بالكرة، كذلك في قصة «أرخص ليالي»، حيث تتناول سخط «عبدالكريم» ذلك الريفي من ضيق حالة المتعثر في قرية بائسة، والذي لديه من الأبناء ستة ولا يملك من أين يطعمهم، كما يتناول في قصة «الشهادة» ما كان يدور بين معلم الكيمياء «الحفني أفندي مصطفي» وطلابه من مواقف ثم لقائه بطالبه الذي أصبح «دكتور» واسترجاع الذكريات، فيبدو أن إدريس كان معنيا في قصه بتحولات الزمن وأثرها في شخوص قصته، واللافت في مجموعته الأولي تنوع موضوعاته، إذ يتناول أيضا مواقف عابرة كلقاء محام في سفره بجار له علي مقعد الأتوبيس يثقله باستفسارات قانونية، كما في قصة «ع الماشي»، والماثل في مجموعة إدريس الأولي أنه مع كلاسيكيتها الأسلوبية المتمثلة في غلبة السرد واستحواذه علي مساحة واسعة من فضاء القص وانحسار رقعة الحوار وعناية الوصف برسم ملامح الشخصيات لاسيما الخارجية إلا أن ما يميزها هو سهولة اللغة وطزاجة الصور وجدة التشبيهات التي جاءت من نسيج القص وأحيانا ما تكون ملقحة بأبعاد نفسية. بيت من لحم ومع توالي مجموعات إدريس القصصية مثل «جمهورية فرحات»، «أليس كذلك»، «البطل»، «حادثة شرف»، «آخر الدنيا»، «لغة الآي آي» و«النداهة»، إلا أن مجموعته ب«بيت من لحم» خرجت لتمثل نقلة أسلوبية في قص يوسف إدريس، كما في قصة «بيت من لحم»، حيث أرملة وبناتها الثلاث يعشن في حجرة ولا يعرفن من الرجال سوي مقرئ يتلو علي روح أبيهم عصر كل جمعة، فتفوح من جمل هذه القصة وعلي امتداد المجموعة شعرية خاصة تنبثق من هندسة الجمل التي يغلب عليها القصر والزخرفة اللفظية غير المتكلفة التي تسلط الأضواء علي دلالات المعني، فيصف صوت القاص حالة الصمت، صمت لم يكن يقطعه إلا صوت التلاوة، والتلاوة لمقرئ، والمقرئ كفيف، فيختتم جملة بكلمة «مقرئ» ثم ما يلبث أن يستهل بها جملة تالية دون امكانية لتحاشي تكرار الكلمة، في تواصل حلقي فيما عرف في البلاغة العربية بالترديد ثم يستكمل: والقراءة علي روح المرحوم وميعادها لا يتغير. ثم يصف صوت القاص اعتياد المقرئ، بالتعود يجيء، بالتعود يقرأ، بالعادة يمضي، فيشي هذا التماثل التركيبي الذي تكاد تتماثل فيه الكلمة الأولي في ثلاث جمل ثم تتبع بفعل بتماثل آخر علي مستوي الدلالة، وهو ما يشي بآلية الأفعال التي غلبها التعود ثم يعود السارد ليصف الصمت الدائم: دائم هو الصمت، حتي وتلاوة عصر الجمعة تقطعه، أصبحت وكأنها قطع الصمت بصمت: فيبدو هنا تحول إذ إنه من شدة الاعتياد فقدت التلاوة وظيفتها وماهيتها الصوتية، فهي وإن تقطع الصمت فهي كالصمت، حيث تفقد الأشياء والأفعال وظيفتها بتكرارها الممل ثم يستأنف: دائم هو كالانتظار، كالأمل، أمل قليل ولكنه دائم. فيحيلنا التكرار المتوالي لحرف التشبيه الكاف إلي أبيات الشابي: عذبة أنت كالطفولة، كالأحلام، كاللحن. في إشارة إلي تعدد أوجه المشبه به التي يرتديها المشبه ثم يعود ليكرر آخر كلمة بجملة سابقة الأمل ثم يستهل به جملته التالية أمل قليل فيما أسماه «كوبر شويك»، أسلوب Anadiplosis وهو ما نلحظه في تشبيه آخر: أنفاس باضطرابها تتحول إلي فحيح، فحيح كالصهد الذي تنفثه أراض عطشي. وأحيانا ما يكون تكرار الكلمة في نفس الجملة لكن في وسطها كما في قصة «علي ورق سلوفان»، حيث تصف الزوجة المتملمة زوجها: لماذا ببطء يعمل. فتكرار كلمة «ببطء» للإلحاح علي استشعار الزوجة بتباطؤ الزوج في عمله، وأحيانا ما يختتم جملة بكلمة ثم يعاود ليختتم بنفس الكلمة الجملة التالية عليها، فيما يشبه تقنية الإبطاء في الشعر، فيركز الانتباه علي هذا المختتم المكرور، كما يصف السارد في قصة «بيت من لحم» حال البنت الوسطي: وعلي الإفطار كانت، كما قدرت تماما - الوسطي صامتة! وعلي الدوام صامتة. كما يخبرنا السارد عن ذلك المقرئ الكفيف: إنه هو الآخر يريد أن يعرف.. عن يقين يعرف وهو ما يشي بالمسعي الملحاح إلي المعرفة. وهو ما يتبدي لنا بالمثل في وصف الزوجة الحائرة في قصة «علي ورق سلوفان»: تنكفئ علي نفسها فيه وتلقي علي داخلها كله نظرة، لتدرك، فقط لتدرك كنه ما حدث. ومن الملامح التركيبية البارزة في هذه المجموعة ان إدريس كثيرا ما يعمد إلي الخروج علي البنية التركيبية المألوفة للنحو العربي، فيختتم كثيرا من جمله بفعل بعد ان يقدم متعلقه عليه، فيما يشبه تركيبيا بنية الجملة في اللغة الفارسية فيصف في «بيت من لحم» مقدم المقرئ: عصر الجمعة يجيء بعصاه ينقر الباب، ولليد الممدودة يستسلم، وعلي الحصير يتربع كما يصف صوته بأنه: صوت عال أجش بالسعادة يلعلع. ويصف جلسته والشاب- سعيدا وكفيفا ومستمتعا- ينكت لا يزال. كذلك في مستهل قصته «علي ورق سلوفان»: الغربة هبطت، فاتنة هبطت نعنش روحها الغزل الصادر من عابر سبيل مسرع، دخلت الحديقة، بتؤدة عبرتها، السلالم راحت تصعدها، سلمة، وسكتة، وسلمة، في آخر سلمة اضطربت، خائفة اضطربت. فكأن كاميرا القص تلتقط الخلفية وعناصر المشهد تتم تلتقط بعدها الحركة والحدث والفعل، كذلك قد يعمد القاص إلي تكرار كلمة في مستهل أكثر من جملة متتالية، عشر سنوات ومنظره وهو داخل الحمام وهو خارج منه نفس المنظر، نفس الطريقة، نفس الغياب الطويل، عشر سنوات تسمع منه نفس التعليقات عن نفس الأشياء وبنفس النبرات، عشر سنوات، تعرف عنه كل شيء، فيشي التكرار إلي تماثل أفعال الزوج التي تلتقطها الزوجة المتململة من آليته الفعلية، كما تحفل المجموعة بألوان التقابل مما يقوي درامية القص بما يحويه من متضادات متقابلة كتشبيه الأرملة بعد زواجها بالمقرئ الذي يفترض انه كفيف إذ يجدها المقرئ متبدلة الأحوال فهي طازجة صابحة كفطر الندي مرة، ومنهكة مستهلكة كماء البرك مرة أخري، ناعمة كملمس ورق الورد مرة، خشنة كنبات الصبار مرة أخري، وفي موضع سابق عليه يصف انقطاع المقرئ عن بيت الأرملة: يجيء عصر الجمعة ولا يجيء المقري. كما تحفل القصص بكثير من جمل الاستفهام مما يجلي أغوار الشخصيات الداخلية. الروائي والمسرحي خاض إدريس مجال الرواية فكتب روايات منها: «الحرام»، «العسكري الأسود»، «البيضاء»، «العيب» و«قاع المدينة» وفي رواية «الحرام» تناول قاع الريف وحالة عمال التراحيلة واستغلال أصحاب الإقطاع لهم، فيجلي في فنية بارعة أبعادا أيديولوجية، أما في رواية «قاع المدينة» فيتناول قصة «عبدالله القاضي» الذي يستغل خادمته جسديا ويأتي الحوار فيها طويلا عند عبدالله القاضي في حواره مع الخادمة إبرازا للبون الشاسع بينهما في الفكر، أما في رواية «العيب» فيرصد تطورا لحق ببنية المجتمع وهو دخول المرأة مجال العمل حيث سناء الموظفة التي تلتحق بمصلحة حكومية لم تعرف من الموظفين إلا الرجال فتسقط في بئر الانحراف المادي وتقبل الرشوة كذلك تسقط في أوحال الرذيلة وتنحرف مع أحد الزملاء، كما اتسمت روايات إدريس بطول الوصف لشخصياته وملامحها الخارجية والداخيلة النفسية مع انحسار مساحة الحوار، إلا أن يوسف إدريس مسرحيا امتاز بالطليعية والتجديد، فجاء مسرحه حدثيا من حيث التكنيك والبناء، كما في مسرحية «الفرافير» إذ يورد المؤلف كأحد شخوص مسرحيته ويعمد إلي تقنية برختية وهي كسر الحاجز الرابع بين الممثل والجمهور فيدخل الممثلون في حوار مع المتفرجين، كذلك يعمد إدريس في مسرحه إلي اختيار فضاء مكاني مفتوح لايزدحم بكثير من أشياء الديكور، كما يتسم مسرحه بقصر الجمل الحوارية في الأغلب، كذلك في مسرحيته «المخططين» نجده يورد الشخوص بلا أسماء ويكتفي بوظائف لها مما يشي بفقدان الشخوص سمتها الشخصية وهويتها واكتفائها بكونها الوظيفي الآلي وهو مجرد تأدية عمل، كما مثل لإحدي الشخصيات وهو دكتور ع الريق بأنه دخل في صورة الجنيه مما يشي بماديته.