عن قصيدة النثر نقول استباحوا الأوزان وكسروا التفعيلة ولم يراعوا وحدة الموضوع.. فماذا بعد؟ نسأل.. كم بيتا من قصائد النثر التي يكتبها هؤلاء رسخت في وجدان الضمير العربي؟ اللبنانيون عرفوا أحمد شوقي والمصريون قرأوا لأبي القاسم الشابي وانتقل الشعر الرزين من بلد إلي بلد وهو غير موجود في قصيدة النثر نعلمها جميعا تلك المقولة الذائعة بأن الشعر هو ديوان العرب والمقصود بهذه العبارة هو أن الشعر ظل ردحا من الزمن بمثابة رصد الحال وتوثيق وضع الأحوال وذلك فيما يخص حياة العرب من أمور صغرت أم كبر شأنها .. وظل الشعر دوما هو المجال الأرحب والأصدق لتوثيق يوميات الأحداث بل ونحسب هنا - ولا ندعي لأنفسنا التخصص _ بأن الشعر لعب دورا لا بأس به في توثيق بعض الأحداث التاريخية ذات الشأن خاصة في مرحلة ما قبل ظهور الإسلام. بعد أن ظهر الإسلام وكما هو معروف كانت حجة النبي -صلي الله عليه وسلم- علي بني قومه من العرب هي تلك البلاغة غير المسبوقة التي نطق بها القرآن وهذه الفصاحة التي شافهها الرسول والتي لايباريها شعر ولا شاعر من أساطين ذاك الزمان فلقد كانت البلاغة هي دوما السلاح الذي يتباري في مضمارها الجميع. اللغة تخرج من شبه الجزيرة كما خرج الإسلام من شبه الجزيرة العربية بفتوحاته الهائلة ..خرجت أيضا اللغة العربية كلغة أم للدين الإسلامي الذي ينطق بها نبيها المرسل خطت بها بعض الآيات آنذاك.. وكما نجح الفاتحون في نقل الدين الإسلامي الي بلاد أخري نجحوا أيضا وإلي حد بعيد في ترسيخ دعائم اللغة العربية في هذه البلاد المفتوحة ومن ثم نطقت بها الأجيال المتعاقبة جيلا بعد جيل ومع دخول الإسلام أيضا الي هذه البلاد انتقل التراث الشعري إليها واستطاعت الأجيال -المسلمين منهم وغير المسلمين - استطاعوا أن يستوعبوا هذا التراث الضخم من الشعر العربي الجزل واستطاع أحفاد غير الناطقين بالعربية أصلا أن يهضموا وببراعة هذا الموروث العظيم من ذلك التراث الشعري العربي بصفة خاصة والإنساني بصفة عامة لم يتوقف الأمر عند هذا الحد - مرحلة الاستيعاب وحسب - بل إن الأمر تعداه أيضا إلي مرحلة الإبداع .. وتفوه الجميع بالشعر تبعا لقواعده العربية وقرضوه بأوزانه وقوافيه كما ينبغي له أن يقرض ثم أصبحت لهذه الأجيال تراثها الشعري الخاص بها والذي يعد وبحق ديوان حالها كما كان الشعر القديم ديوان حال زمانه. لأن الشعر العربي يعد فنا حقيقيا لا إفتعال وادعاء وتصنع فيه توارثت الأجيال أبياته جيلا بعد جيل، تلك الأبيات التي عبرت عن مكنون نفوس قائليها و أتخذ من بعض الأبيات الشعرية أمثالا يتقولها الناس في حد ذاتها دون حتي معرفتهم بقائلها أو إلمامهم بوضعها في القصيدة الأصليه مما يدل علي أن هذه الأبيات لها من صدق المعني و تبيان مقتضي الحال ومن البلاغة الكثير والذي جعل منها في حد ذاتها كما ذكرنا مثلا يقال . التغيير والتمرد ورغم توقف حركة الفتوحات الإسلامية التي كانت صاحبة فضل لا ينكر علي انتشار اللغة العربية إلا أن حركة انتقال الشعر العربي من قطر إلي قطر لم تتوقف نظرا لتشابه الحال وتوحد الهموم المشتركة بين أبناء الأقطار العربية .. انتقل الشعر المصري إلي تونس وانتقلت أشعار أبي القاسم الشابي إلي مصر ..عرف اللبنانيون أمير الشعراء أحمد شوقي وأحب المصريون شعراء لبنان ودرسوا أشعارهم في المناهج التعليمية. مع تقدم الزمان جري علي الشعر ما يجري علي سائر الفنون والآداب من عوامل التغيير ومن الرغبة في التمرد علي القديم المتوارث وحب الأجيال اللاحقة لإثبات وجودها الأدبي ولكن للأسف كان تمرد الشعراء الجدد (وقتها) علي الموروث الشعري لم يكن فقط تمردا علي تكرار المعاني واجترار نفس الأغراض بل كان تمردا علي القواعد والأسس التي قام عليها هذا الفن الجليل والذي يعد حتي الآن -رغم كل المستجدات - من أهم ما أنتجته القريحة العربية علي مدي عمرها ..لقد كان التمرد علي البنيان الشعري ذاته وياليتهم تمردوا أيضا علي المسمي - شعر- أو علي الصفة - شاعر - لكنهم لم يفعلوا ولن يفعلوا لأنهم إن فعلوا لفقدو تلك الوجاهة التي يضفيها عليهم هذا اللقب الجليل (شاعر). دمروا القافية واستباحوا الأوزان وكسروا التفعيلة ولم يراعوا وحدة الموضوع فيما يكتبون.. هذا غير الغموض والإبهام تحت دعاوي الحداثة وحركة الحداثة من كل هذا براء.. تسلقوا كالنمل علي بنيان القصيدة الوقور ونخروا مثل السوس في ملامحه الخارجية وأساسه الداخلي حتي انهار تماما ولكن ليس علي رؤسهم بل علي رؤي أهل الغيرة علي هذا الفن المهدور. كما ذكرت آنفا لقد توارثت الأجيال الشعر العربي القديم وحفظت منه أبياتا وأبيات علي الرغم من قدم النظم وعلي الرغم أيضا من جزالة ألفاظه ..فهل استطاع الشعراء الجدد ممن يرفعون ما يسمي بقصيدة النثر أن يحفروا بأبياتهم مجرات في أذهان المتلقين كما فعل الأقدمون من ذوي الحرفة والمهارة الحق؟ كم بيتا من أبيات أشعارهم المفتعلة رسخت في وجدان الضمير العربي من نشأة هذا الفن المشوه وحتي الآن؟هل استطاعت ما تسمي بقصيدة النثر بكل ما أوتيت من وسائل الحضور أن تؤثر علي المشهد الشعري العربي وأن تأخذ مكانتها التي كانت تحلم بها ويحلم بها شعراؤها المفتونون أم أنها لازالت في مكانها الذي يليق بها لم تبارحه منذ نشأتها وحتي الآن ؟ ألم يسأل رافعوا رايات هذا اللون من الفن والذين يسمونه بهتانا وحسدا من عندهم يسمونه شعرا ألم يسألوا أنفسهم أين هم الآن من المتلقي وأين المتلقي منهم ؟ أم هل اكتفي كل واحد منهم أن يقرأ لنفسه بل إني أحسب أيضا أنهم حتي لا يقرأون لبعضهم. إن ناظمي هذا اللون من الفن لا يحدثون المتلقي ولكن يحدثون أنفسهم إنهم حتي لا يتحدثون عن ذواتهم لأنهم لو فعلوا لتواصل القاريء معهم ولكنهم يتحدثون إلي أنفسهم عما في نفوسهم فحديثهم من وإلي الذات. لا أدعي أن الموروث الشعري القديم كله جيد وعلي درجة واحدة من الإتقان بل إن فيه الغث والسمين ولا شك ولكن الأساس فيه هي الجودة وبراعم النظم وإتقانه وذلك بسبب طبيعة الشعر القديم وما تفرضه علي قائله من قواعد صارمة لا تجعل للمتطفلين عليه محلا. رثاء إن ما يسمي بقصيدة النثر شيء يبعث علي الرثاء بالفعل حتي مسمي هذا اللون من الكتابة يبدو متناقضا مع ذاته (قصيدة النثر ) هل تنثر القصائد؟ لا يحسب أحد اننا نطالب في هذا المقام بالحجر علي أحد أو أننا نصادر حق الآخرين في أن يبدعوا وأن يخرجوا ما في مكنون نفوسهم بأي طريقة يشاءون ..إننا فقط نطالب أن يحفظ لكل صاحب حق حقه والحق الذي نعنيه هنا هو الشهر وأصحاب الحق هم الشعراء الحقيقيين الذين يحق لهم هذا الحق عن استحقاق. إن لقب شاعر لا يستحقه من يشتغل بما يسمي قصيدة النثر لأن القصيدة لا تكتب نثرا والنثر لايصاغ في صورة أبيات فلكل مجاله. السؤال ... لماذا يصر هؤلاء الأشخاص الذين يسمون انفسهم بشعراء قصيدة النثر لماذا يصرون أن يلحقوا بأنفسهم لقب شعراء إنه لشيء مبهم وغير مفهوم ولا مقبول ..إذا كانوا من الأساس قد تعالو علي قواعد الشعر وتمردوا علي أوزانه وقوافيه فلماذا إذن تمسكوا بالصفة -شاعر- ولم يستبدلوها بغيرها في سياق التحديث والتجديد والتمرد لماذا لا يبحثون لأنفسهم ولفنهم هذا علي مسمي آخر ينضوون تحت لوائه ويجلسون في ظلاله ويتركون الشعر و أوزانه وقوافيه ووحدة قصائده إلي أصحابه الحقيقيين الذين لا يزالون يرون في الشعر بشكله القديم وبقواعده الموروثة ملجأ وملاذا آمنا من هذا القبح الذي استباح كل شيء في طريقه.