من خلال رئاستي للجنة تحكيم بينالي فينيسيا الحالي وعلي مدار الخمسة أيام الشاقة من مشاهدة وتحكيم عدد ضخم من الأعمال الفنية المتباينة المستوي والمختلفة الاتجاه والشكل والمضمون والهدف باغتني شعور شديد الغرابة، حيث كنت كممارس في موقف من عليه الحكم علي حقل ممارسته، فاختياراتي هنا لها تأثير حقيقي علي رواج فكرة ما عن ماهية الفن علي حساب فكرة أخري ، وقد كان هذا التوجس يزيد من حساسيتي لهذا الحشد الضخم من الأعمال الفنية التي تخيلتها تعكس نوعا من اليأس، فمع الوقت تجد تشابها في المنطق المحرك لمعظم الأعمال فتتساءل ما أهمية هذا العمل علي حساب أي عمل آخر إذاً؟ ينتابك إحساس غير مريح بعض الشيء أن هذه الأعمال تطلب منك، وبنوع من الاصرار، أن تنظر إليها، تتوسل إليك لكي تكتسب أهمية ما تميزها عن البقية، من الممكن إحالة هذا الاحساس كأثر جانبي لضخامة البينالي حيث تتحول الأعمال إلي مجرد تنويعات مختلفة علي تيمات مكررة، لكن ساورني شك بأن هذا الأحساس مرتبط بشدة مع شيوع نمطية ما في الممارسة الفنية ذاتها، وقد زاد هذا الاحساس من قناعتي بأهمية أن يحتوي العمل الفني علي شيء يميزه، فلا يصبح مجرد إعادة إنتاج للغة جاهزة ومسبقة، هذا العنصر المميز من العوامل الأساسية التي كنت افتش عنها، وغالبا عندما وجد فإنه قادر علي لفت الأنظار وشد الانتباه ويصر أن تعطيه وقتك وأن تستثمر جزءا من شخصك، وكانت مثل هذه الأعمال قليلة ولكنها ذات مغزي كبير. هذا المقال وصف وتحليل لمثل هذه الأعمال وهو بالتالي وبوضوح ترويج لفهم العمل الفني من خلال عدسة أو زاوية ما. الأسد الذهبي لأفضل فنان في معرض إضاءات نعتت لجنة التحكيم "الساعة" لكرستيان ماركلي ب"التحفة الفنية" واضافت إنه "نجح من خلال اعماله علي مدي الثلاثين عاما الماضية أن يجعل الحدود بين الأشكال والأجناس الفنية ليست ذات أهمية". الساعة فيلم طوله 24 ساعة، أي يمكن مشاهدته علي مدار يوم كامل، وهو عمل يمكن أن يشاهد من أي نقطة لاي مدة زمن، فهو ليس له نهاية أو بداية، يتكون من لقطات أرشيفية من تاريخ السينما منذ بدايتها وحتي2010 عندما انتهي الفنان من هذا العمل الذي استغرق عدة اعوام، جميع اللقطات تدور حول علاقة الانسان وأداة قياس الزمن (هنا تظهر في جميع تجلياتها من ساعة اليد إلي الساعات العامة). دائماً تظهر ساعة في الكادر أو يكون هناك حديث في المشهد مرتبط بالزمن، زمن الفيلم متزامن ومتطابق مع الزمن الحقيقي، أي يمكنك الاعتماد علي الفيلم كساعة حقيقية، فكلما رأيت ساعة علي الشاشة سوف تلاحظ تطابقها بالظبط مع الوقت الحقيقي، ومن خلال عملية التوليف الشديدة الذكاء واللطف (أي الدقة المتناهية والبديهية في آن واحد) والمبنية علي التداعي بجميع اشكاله (فتارة يكون الرابط بصريا وفي أحيان أخري يكون منطقيا أو سرديا وفي لحظات أخري قد يكون مبنيا علي التباين أو التضاد) ومع قدرة العمل الناجحة علي الحفاظ علي انتباه المشاهد، نجد أنفسنا أمام عمل شديد الانسيابية والغموض في نفس الوقت، فهي تجربة شديدة العاطفية لكن بدون أي تملق أو محاولة لابتزاز هذه العواطف. مزج جميع هذه العناصر (وظيفة العمل كساعة حقيقية تعمل بدقة، ربط المادة الأرشيفية من خلال منطق التداعي وليس منطقا سرديا يحاول أن يعبر عن فكرة ضخمة أو يطلق حكما مطلقا أسطوريا، القدرة علي الحفاظ علي انتباه المشاهد) تؤكد أننا بصدد عمل بعيد كل البعد عن آليات "التمثيل" فهو هنا لا يحاول أن يتحدث عن الأشياء (كما يتحدث الأعلام، او الأدب مثلاً)، ولكنه يقدم شيئا قائما بذاته له وجود في هذا العالم ومنطقا خاصا به يحتوي علي معاني تسبق خواطرنا وخواطر الفنان ذاته، وقد يكون هذا إحدي خصوصيات العمل الفني ذاته. هذه النوعية من الأعمال دائماً تثير الدهشة والمتعة فنحن لا نعلم ما هو القادم، نحن هنا نكتشف الأشياء. المادة مستقاة من الخيال الجمعي للحضارة البشرية كما تجلت من خلال تاريخ السينما، حيث يتسني لنا مشاهدة رؤانا وأحلامنا، كوابيسنا وهواجسنا، آمالنا ومخاوفنا علي الشاشة. وقد نجح العمل في أن يقدم لنا هذه التجربة بدون طرح صورة بطولية لذات الفنان داخل العمل. عمل لديه أيضاً القدرة علي التواصل السهل مع جمهور عريض، وقد نجح في هذا بدون أن يعيد إنتاج القيم السائدة، فهو لديه لغة خاصة ليست مبنية علي الاساطير المهيمنة علي مخيلة الفن، فلم يكن تعبيرياً حيث العمل مجرد أداة للتعبير عن موقف أو فكرة، وهذا يحسب له. وقد كان أيضاً في خلفية نقاش اللجنة دراية بفن ماركلي منذ الثمانينات، فهو فنان يستخدم الأدوات بمنطقها الثقافي مثلاً يتعامل مع الآلات الموسيقية من خلال فهمه لها كأشياء صنعت، نبعت من حضارة وثقافة ما، وليس كأنها حقيقة مجردة، فنجد هنا مسافة بين الفنان والاداة تأخذه بعيداً عن تأليه الوسيط أو رومانسية تحويل العناصر التي تظهر داخل العمل إلي رموز، فبالتالي نري انسيابية في استخدام الوسائط كما تطلب المادة المستخدمة ذاتها وبدون الرجوع للافكار المسبقة، اهمية سعي الفنان لاكتشاف لغة خاصة ليست مجرد محاولة لخلق شيء جديد لكونه جديدا بقدر ما هي محاولة لفهم المادة المستخدمة بطريقة أكثر عمقاً، فبالتالي يتعامل مع ذات الفنان كأداة وليست كالموضوع، وهذا يعني تخطي المسبق والمحدد سلفاً، نجدعملا دقيقا في أدواته، ليس به أي زيادات زخرفية (مجازاً أو حرفياً) تحاول أن تفعل شيئا آخر غير المنوط بها. الأسد الذهبي لأفضل جناح ذهب إلي الجناح الألماني جاء نص اللجنة كما يلي: "طور كريستوف شلنجنسيف ممارسة فنية تتخطي جميع الوسائط، تتسم بكثافة شديدة، والتزام لا يحيد عن رؤية شديدة الخصوصية. لجنة التحكيم تريد أن تشيد بالمجهود المهني للقائمة علي الجناح سوزان جينزهيمر." فقد كان الجناح الألماني "مأهولاً" بعمل الفنان الراحل كريستوف شلينجنسيف الذي توفي العام الماضي عن عمر يناهز 50 عاما بعد صراع طويل مع مرض السرطان، يعتبر شلنجنسيف فنانا غير تقليدي فقد وصل إلي عالم الفن من خلال عمله بالمسرح والسينما "الأندرجروند" والتي كانت شديدة الصلة بثقافة "البنك" التي اجتاحت أوروبا في الثمانينات والتي استندت إلي جماليات رخيصة تعكس حطام الثقافة الرسمية البرجوازية، فتعتمد علي جماليات شعبوية بفجاجتها ورخصها كي تتمكن أن تتحدث من موقع مغاير للقيم المهيمنة علي المجتمع وأن تطرح تجربة جديدة للانسان، لكن يمزج شلنجنسيف هذه اللمسة الشعبوية بهواجس شديدة الشخصية، مشحونة برؤيته للانسان كخليط متناقض للغرائز وشاعرية قاسية ولكنها دائماً تطل علينا من تحت ظلال العقد الاجتماعي الذي يضع القوانين لكيفية تعامل الفرد مع ذاته ومع الآخر، فبالتالي نجد بعدا سياسيا لأعمال شلنجنسيف. اهتمام شلنجسيف بالجماليات الشعبية الرخيصة التي تدور حول حبكات الخيال العلمي والمغامرات البوليسية والاغراء والتي تظهر بوضوح في أفلامه تعيد صياغة التجربة البشرية بدون ادعاء أو خطابة وعلي النقيض نجد تلذذا بإنتاج الثقافة الجمعية التي هي دائماً علي علاقة مشتبكة ومتناقضة مع الثقافة الرسمية فهنا نجد نوعا من المباشرة الإيجابية- فهي مباشرة ليست مبنية علي إصدار الأحكام بقدر ما هي تعكس التحرر من بروتوكولات التواصل التقليدي، وقد كان شلنجنسيف فنانا غزير الانتاج يستخدم جميع الوسائط بدون أي حرج أو رهبة من الوسيط، فنجد هنا أيضاً تحررا مثمرا من قدسية الوسيط. من المهم أن ننوه هنا بدور القيمة علي المعرض سوزان جينزهيمر، والتي أصرت علي تقديم جناح شامل به ثلاثة اضلع، أولاً المساحة الرئيسية التي تم فيها إعادة بناء الديكور لعرضه الذي قدم عام 2008 في ترينالي الرهر المسرحي بألمانيا تحت اسم"اوراتوريو فلكسس: كنيسة الخوف تواجه الغريب الداخلي" والذي اعتبره شلنجنسيف عملا فنيا قائما بذاته، وهذا العمل في الفراغ مكون من إعادة بناء دقيقة لبهو الكنيسة التي ذهب إليها شلنجنسيف الطفل، وقد امتلأت بأعمال كثيرة من أفلام ومنحوتات ونصوص كلها لها لغتها الشخصية المختلفة ولكنها تمتزج لتنتج مساحة شديدة الكثافة تحتوي علي شحنة عاطفية ذات قوة وتأثير كبير، علي الجانب الأيسر للجناح نجد سينما بسيطة تعرض مجموعة من أفلام شلنجنسيف علي مدار الساعة وأخيراً الجزء الثالث مرتبط بمشروع شلنجنسيف لبناء دار أوبرا بقرية في بوركينا فاسو، وقد احتوي هذا الجزء علي ماكيت وبعض المواد التوثيقية كما تم بث بعض الحوارات معه والتي ألقت الضوء علي خصوصيته وأعطت المشاهد فرصة التعرف علي شخص هذا الفنان المدفوع بهواجسه، والذي يكتشف الأشكال التي يستخدمها من خلال تشابك عميق مع هذه الهواجس. وقد كان هذا الالتزام الواضح بالرؤية الشخصية حتي النهاية، مع التزام ومهنية القيمة لتهيئة المناخ الملائم لترجمة مثل هذه الخصوصية من الأسباب الرئيسية التي أقنعت لجنة التحكيم بجدارة منح الجناح الأسد الذهبي. ومن الناحية الاخري فقد دار نقاش داخل اللجنة حول ذاتية أعمال شلنجنسيف الشمولية والتي قد في بعض ردود الفعل الناقدة توصف بالفاشية الضمنية، فاعتماده علي هالة من الدينية المغلفة بأحاسيس الذنب وطلب الغفران بها نوع من إعادة إنتاج لفكرة ثقافية، وقد تكون هذه رواسب الثقافة الألمانية ذات الصبغة البروتستانتية، لكن قد رأت اللجنة أن فعالية العمل تكمن في قدرته علي تخطي هذه العناصر، وصموده كشكل غير أحادي أمام هذه القراءة الأيديولوجية، أي امكانية العمل أن يتخطي ذاتية الفنان، فبعد نقاش طويل. رأت اللجنة أن الجناح به "قوة" في التعبير تستخدم لغة الميلودراما ولكنها ليست رهينة لها، فهي قادرة أن تتخطي حدودها فيصبح هناك تناقض خلاق داخل العمل بين شحنته الشمولية وقدرته علي التشظي والتشابك مع المشاهد أو الجمهور علي أكثر من مستوي، فقد تكون نقطة انطلاق العمل علاقة الفنان مع موته لكن تمت ترجمة هذه العلاقة إلي أشكال فنية لها بعد لا يمكن تحديده كمجرد تعبير أو شرح لحالة ما، فهي ليست مجرد إقرار أو تقرير عن هذه الحالة بقدر أنها تمثل نوعا من المخاطرة الشخصية التي في هذه الحالة تثري العمل الفني وتضعه في مساحة أكثر رحابة من مجرد ثنائية المدح أو الهجاء الضحلة. تتمة لابد منها، النفي كتعريف ومحاولة تخطي الأفكار المسبقة وفي نهاية هذا العرض الموجز الذي لم يتحدث عن جائزة الأسد الفضي لضيق المساحة، هذه المحاولة لشرح بعض حيثيات لجنة التحكيم واختياراتها، هذه المقدمة لمثال اختيار وتقييم الأعمال بدون الاستناد لمجموعة من القوانين الأكاديمية أو التقنية، أي محاولة قراءة وإستنباط أهمية الأعمال الفنية بدون الاتكاء علي الأفكار المسبقة، فنجد في طيات الكلام طرحا ما أو تخيلا عن ماهية الفن ذاته، وتعريفا لهذه الفكرة من خلال النفي، فهو شيء لا يعيد إنتاج القيم المهيمنة وإن فعل فيحتوي علي عنصر ما يدفعه لكي يتخطي هذه المنطقة، نحن أيضاً بصدد فن لا يمثل الأشياء، لا يتحدث عنها، بقدر ما يؤسس لنفسه كشيء له وجود معنوي ومادي، شيء يتخطي المدح والهجاء، هذا فن قد يكون ممتعا، قد يكون شديد البساطة أو التعقيد، شديد الصعوبة أو السهولة، لا يبني شرعيته علي أساس الوسيط الذي يستخدمه أو الموضوع الذي يتناوله أو المرجعية التي يشير إليها، فما هو إذاً هذا الشيء؟ وللحديث بقية.