تتواصل في هذه الأيام أعمال الحفر حول وتحت المسجد الأقصي وفي البلدة القديمة في القدس، وتقول السلطات الاسرائيلية إنها لأسباب "علمية" حيث يجري التنقيب عن آثار للمملكة اليهودية القديمة المزعومة، بينما تهدد هذه الحفائر أساسات بيوت السكان العرب التي بدأ بعضها يتآكل بالفعل ويوم تنهار سيجبر أصحابها علي الرحيل لامتناع السلطات الاسرائيلية عن منح العرب إجازات بناء. وهكذا يتم تهويد المدينة باستخدام العلم بدلاً من العنف، بل والأكثر خطورة في هذه الحفائر أنها تضعف أركان المسجد الأقصي نفسه وتهدده بالانهيار مستقبلاً دون أن يبدو ذلك مقصوداً. التنقيبات علمية، هكذا يقال، لكن ما يكشف للملأ عن حقيقتها هو أن تمويلها الرئيسي يأتي من منظمات صهيونية واستيطانية متشددة، فإلي أي مدي تورط علم الآثار الاسرائيلي في السياسة الصهيونية؟ وهل لا يزال يصح وصفه بالعلم؟ هذا هو موضوع أحدث كتب أستاذ التاريخ القديم هانس فوروهاغنHans Furuhagen الذي صدر في استوكهولم في سبتمبر الماضي بعنوان "الكتاب المقدس وعلماء الآثار" Bibeln och arkeologerna مثيراً جدلاً في الصحافة وحاملاً أكثر من صدمة للقارئ الغربي خصوصاً، وأكثر من معلومة جديدة للقارئ في كل مكان، ولا ينتظر أن يلقي الكتاب ترحيباً من الاسرائيليين فهو يستفز، بل يفضح، ذرائعهم الدينية للاحتلال. ففي إسرائيل تشكل قصص الماضي مصدراً لتعريف الأمة، مصدراً للهوية. اليهود و تاريخ المنطقة حتي لدي أكثر الغربيين علمانيةً يعيش تراث ثقافي جماعي يهودي مسيحي يظهر فيه الاسرائيليون القدماء بمثابة المحور لمنطقة الشرق الأوسط، ويؤخذ تاريخهم المكتوب علي أنه يتضمن علي أقل تقدير نواة للحقيقة، لكن ما تكشف عنه تحقيقات فوروهاغن شرقٌ أوسطٌ آخر تماماً، صاخب ومتعدد المكونات، وأكثر تعقيداً من المرافعة الساذجة التي تقدمها التوراة والتي تبدو بالكاد مترابطة. إلا ان الصورة التوراتية للعالم تمكنت من البقاء لأن المتشددين من اليهود دأبوا طوال أكثر من مئة عام علي تمويل المشاريع الأثرية والقيام بالحفائر وكذلك تفسير اللقي الأثرية. لقد كان علم الآثار في هذه المنطقة سياسياً علي الدوام. ويكشف فوروهاغن ان أهم ممولي الحفائر الأثرية في القدس مثلاً هما مركز شالم وإلعاد، وهما منظمتان يمينيتان تعملان بشكل علني علي تهجير الفلسطينيين، وتتركز جهودهما علي حائط المبكي وقلعة داود وهيكل سليمان. لقد سلّم كثير من المثقفين والمتعلمين حول العالم تسليماً بديهياً بوجود داود كحاكم لمملكة كبري وبأورشليم كمركز عالمي لها وبأن حائط المبكي كان جزءاً من معبد سليمان بشعاعه الذهبي، لكن هذا الوصف التاريخي المهم جداً بحد ذاته لدولة إسرائيل، هو كما يبين فوروهاغن محض زيف. ان الفترة ما بين 1000900 ق. م فقيرة جداً من حيث المخلفات واللقي الأثرية. والمظنون ان كارثة اجتماعية من نوع ما قد أنهت العصر البرنزي وكانت تبعتها إعادة انتشار سكاني علي نطاق واسع، ووفقاً للباحثين المتخصصين فإن النشاط البشري في المنطقة كان منخفضاً ومحلياً. وبعد دراسة كم كبير من المعطيات ونتائج التنقيبات يفجر فوروهاغن قنبلته: إنه لم توجد أية مملكة قط، ولا أي داود ولا أي سليمان، أما حائط المبكي فلم يكن في حقيقته سوي جزء من جدار داعم لمعبد الملك هيرودس. وفي الوقت الذي تقدم فيه النصوص التوراتية قصة الخروج من مصر علي أنها الحدث الأبرز في المنطقة إبان تلك الفترة فإن العلم لم يعثر حتي الآن علي أي أثر لهذا الحدث. فاسرائيل القديمة لم تكن سوي مجموعة بشرية من الرعاة البدائيين يعيشون علي هامش الحياة السياسية والثقافية. كما لم يعثر علي أثر لوجود تلك المملكة الهائلة ذات البريق التي أسسها داود وتولاها سليمان. مع الاحترام لاستنتاجات فوروهاغن العلمية هذه أود التدخل بأن وجود أو عدم وجود آثار لمملكة اليهود وأنبيائهم في المنطقة لا ينفي ولا يؤكد حقيقة وجودهم نفسها (فقد مر دهر طويل علي ذلك التاريخ وطبيعي أن تندثر خلاله آثار كثيرة، كما ليس من المستحيل أن يظهر شيء من تلك الآثار في أي يوم كان) فلا خلاف علي ان الشرق الأوسط هو الموطن الأصلي لليهود ولا علي دورهم كعنصر قديم في الثقافة الاجتماعية لهذه المنطقة، إنما جوهر الأمر هو الخِسّة المبيتة في اقتراف جرائم إنسانية وقانونية وسياسية بحق شعب مسالم والبحث عن إسناد لهذه الجرائم في كتب مقدسة تحترمها الشعوب بحيث يلقي المجرمون مسئولية إجرامهم علي الرب. في إحدي المناسبات سئل نتنياهو عن حجة إسرائيل في الاستيلاء علي اراضي الفلسطينيين، فحمل كتاب التوراة (هو العلماني والديمقراطي... إلخ) وقال: هذا هو الدليل! من هنا يمكن أن نفهم لماذا يمثل علما الآثار والتاريخ مشكلة لاسرائيل الباحثة عن جذور قومية ونماذج تاريخية ليس لدعم شرعية وجودها وحسب وإنما لدعم شرعية احتلالها وسرقتها الارض. يقرر الكتاب ان الأساس الأدبي الذي قامت عليه اسرائيل الصهيونية، وهو رواية العهد القديم عن الوطن الموعود الذي "دمّر" فيه الاسرائيليون، بعد خروجهم من مصر بمساعدة الرب، 31 من قبائل كنعان، لا يعبر عن الحقيقة بقدر ما هو دعاية موجهة الغرض منها التخويف، فهذه الأساطير المبهرة يعود عهدها الي 600 500 ق.م واختُلِقت بتأثير صراع القوي السياسي الديني الذي عاشه اليهود الأوائل وكذلك كأثر نفسي لأسْرهم المهين في بابل، وحين يصف فوروهاغن وبالتفصيل صراعات القبائل الكنعانية علي الموارد (بتأثير الهجرة السكانية) وصراعاتها السياسية (تحت ضغط السلطة المصرية) فإنه يفسر ما نشهده اليوم من تطهير عرقي يمارسه الاسرائيليون بروح المنتصر. فضيحة علم الآثار الاسرائيلي يسلط الكتاب الضوء علي أكثر الأمثلة جلاءً حول كيف تتحول خدع الآثاريين الي سياسة قومية: حفائر صخرة مسادا (قرية مسعدة). ففي سنة 1963 أعلن أحد أبرز علماء الآثار الاسرائيليين، يغائيل يادين الذي قاد تلك الحفائر، عن اكتشاف "عظام بشرية" تعود "لرجل وامرأة وطفل" في داخل القلعة المقامة علي الصخرة، والعثور علي مئات البقايا العظمية وشعر امرأة في مغارة قرب القلعة: كل هذه اللقي كانت تأكيداً مبهراً لرواية المؤرخ اليهودي يوسف عن استيلاء القوات الرومانية علي قلعة مسادا سنة 74 م حيث فضل الألف يهودي المحاصرون فيها القيام بانتحار جماعي علي أن يستسلموا للعدو. ورغم ما في هذه الرواية من ضعف وثغرات، ورغم ان قطاعا من اليهود ينظرون الي سيرة يوسف بارتياب، ورغم ان الدين اليهودي لا يبيح قتل النفس، إلا ان هذه الرواية ظلت مصدراً لفخر قومي ورمزاً للاباء. ولهذا مثّل ذلك الكشف نصراً دعائياً وأيديولوجياً كبيراً للصهيونية ومطالبتها بفلسطين، فأخيراً عُثِر علي دليل ملموس علي ما يدعون. فأقيمت في يوليو 1969 مراسيم تشييع رسمي لدفن ثلاثة توابيت ملفوفة بالعلم الاسرائيلي تحتوي رفاة "آخر عائلة في مسادا" كما أطلق عليها، بحضور سياسيين وزعماء الدولة والجيش ورجال الدين، وأخذ عشرات الآلاف من طلاب المدارس يحجّون الي تلك الصخرة، بينما اندفع آلاف الشباب بتأثير ذلك الهوس القومي للتطوع في الجيش. غير ان هذا كله لم يثن الباحثين حول العالم عن مواصلة التحقيق في الموضوع، لكن كلما تعمقت التحقيقات أخذت النتائج وجهة أخري. واستعان العلماء بوسائل الفحص الحديثة ليعلنوا في النهاية أنهم وصلوا الي إجماع علي أن الهياكل العظمية التي وجدت في المغارة تعود علي الأرجح لأشخاص رومانيين، وأن شعر المرأة الذي وجد معها هو لفروة رأس مجزوزة، وهي ممارسة اعتاد المقاتلون اليهود القيام بها ضد أسري الأعداء من النساء، وأن العظام التي وجدت في المغارة كانت عظام خنازير، أما الصدمة الكبري فهي ان البقايا العظمية التي سكنت التوابيت الثلاثة ولفت بالعلم الاسرائيلي ودفنت بكل تبجيل لم تكن عظام "رجل وامرأة وطفل" وإنما عظام ضِباع كانت قد جُرَّت الي القلعة! والفلسطينيون؟ استغرق العمل في هذا الكتاب خمس سنوات كما يذكر فوروهاغن في المقدمة، ولكنه لا يعتبره من ضمن عمله كباحث في التاريخ القديم وإنما كان لديه دافع آخر لانجازه: انه سد الثغرة التي ظلت النصوص المقدسة تحدثها علي الدوام في لوحة التاريخ. لقد كان علم الآثار في فلسطين موضع شك الي هذا الحد أو ذاك، لأنه يهيمن عليه باحثون مؤمنون بما جاء في الكتب المقدسة عما حدث في هذه الأماكن، بينما علي الباحث الموضوعي ألا يؤمن بشيء مسبق علي الاطلاق. ويقول ان فضيحة مسادا مثال علي هذه الشكوك. لذلك انكب علي دراسة الكتاب المقدس من حيث التتابع الزمني ومقارنة نصوصه مع المعطيات التاريخية المختلفة وملاحظات الآثاريين. كان يواجه كثيراً من الحواجز السياسية والدينية التي تصعّب الأمر علي العلم ولكنه نجح بشكل مثير للاعجاب في التعامل بحيادية حتي مع أكثر الروايات غرائبيةً. من بين أكثر الفصول إثارة للانتباه في الكتاب هو الفصل المتعلق بالفلسطينيين، الشعب الذي لم تذكره التوراة بوِدّ. علي الأرجح كما يعتقد فوروهاغن انهم قدموا أصلاً من الشمال، وتنافس اليهود معهم علي الموارد الطبيعية، ومما لا شك فيه انهم كانوا متحضرين أكثر من الاسرائيليين الذين كانوا رعاة غنم ومتفوقين عسكرياً. ولذلك من المحتمل جداً أن الدعاية العدائية ضد الفلسطينيين التي تبرز في التوراة تعود بأصلها الي غيرة مليئة بالكره الي درجة لم يطق التوراة أحياناً أن يسميهم واكتفي بالرمز إليهم بكلمة "الآخرين". لكن فوروهاغن يطرح تساؤلاً رائداً: كيف تأتّّي أن الفلسطينيين القدماء ظلوا حتي الآن ضحية سمعة سيئة مصدرها التوراة؟ ويجيب بالقول: "ربما كان هذا لأن الفلسطينيين القدماء كانوا يفتقرون الي مصادر قوة كالتي امتلكها اليونانيون والاسرائيليون، كالشعراء مثلاً والمؤرخين القوميين؟ فنحن لا نعرف أيا من هوميروس أو هيرودوس فلسطيني، ولا نعرف كذلك أي مقابل فلسطيني لعصبة رجال الدين في أورشليم التي كتبت تلك الأساطير القومية في الكتاب المقدس العبري". ويقصد فوروهاغن بهذا ان رواية تاريخ المنطقة في تلك الفترة اقتصرت علي اليهود، فإذا كان الفلسطينيون القدماء أكثر مدنية كما تصفهم المصادر فلماذا لم يكن الأدب، وتدوين تأريخهم علي الأقل، جزءاً من هذه المدنية؟ لماذا سمحوا لغيرهم بأن يقدموهم الي العصور التالية ولم يقدموا أنفسهم بأنفسهم؟ اسئلة تحتاج الي باحث مجتهد آخر من نوع فوروهاغن لكي يتصدي لها في كتاب. أما هانس فوروهاغن فقد ولد سنة 1930 وحصل علي مجاز في تاريخ المعرفة و دكتوراة فخرية من جامعة استوكهولم ونال عام 2009 درجة الأستاذية من الدولة السويدية وهو متعدد المجالات فهو مؤرخ و منتج برامج علمية للتليفزيون وأستاذ جامعي وله نشاطات أخري عديدة.