تعودنا أن نتجول مع كتّابنا العرب في مدن القاهرة، الدارالبيضاء، دمشق، بيروت، عمان وغيرها من المدن والعواصم العربية... نتسكع في شوارعها، ونتلصص علي أزقتها و أحيائها الخلفية، لكن بعض الروائيين يميلون إلي "اختراع" مدن وهمية؛ مدن متخيلة، ستبقي خالدة في ذاكرة القرّاء الشغوفين بالسرد، ويجد الكاتب في هندسة تلك المدن متعة لا تضاهي؛ متعة لن يعرفها سوي من اكتوي بنار الحكي، لا سيما وأن الرواية - بخلاف باقي الأجناس الأدبية- فن حياكة التفاصيل وتفاصيل التفاصيل، فيحلق بخياله علي بساط الريح فوق شوارع وبيوت مدينته، متأملا أحوال البلاد والعباد. ومن بين هؤلاء الكتاب نذكر علي سبيل المثال لا الحصر : محمد البساطي في رائعتيه : "الخالدية"، تلك المدينة التي لا وجود لها إلا في خيال بطل الرواية، الممزق بين عالمين، ثم روايته : "دق الطبول" التي لجأ فيها إلي خلق إمارة وهمية بالخليج، وهناك عزت القمحاوي في "مدينة اللذة"، وجمال ناجي في "مخلفات الزوابع الأخيرة"، وأخيرا وليس آخرا.. سعد القرش بروايته الممتعة "أول النهار". بخلاف باقي الكتّاب، لجأ القاص والروائي سعد القرش في محكيات "أول النهار" إلي بناء قرية "أوزير" علي ضفاف النيل، في أوائل القرن العشرين، ونخمن أن صعوبات كثيرة قد صادفته، للإلمام بتلك الأجواء، في غياب كتابات أنثربولوجية عربية و يشترك سعد القرش مع جمال ناجي في أنهما بنيا المدينة/القرية من الصفر، وبعدد محدود من الأهالي، ثم تطرقت الروايتان معا للعلائق الجديدة للأهالي بالمكان وتشابكها مع الأحداث والمصائر والأطماع الفردية، ثم تراتبية المجتمع عبر أكثر من جيل ففي رواية القرش ثمة ثلاثة أجيال تتوارث سيادة القرية، حب المكان وحمايته من الأخطار الداخلية والخارجية، بينما أبطال رواية ناجي يتقاذفون كذبة ملكية أرض، ليبقوا سادة المدينة. لقد استطاع الجد/ الحاج عمران، وهو اسم علي مسمي، أن يعمر المكان مع الناجين من القري الأخري، فبني "أوزير"، بعد أن محاها فيضان النيل، علي أساس العدل والتسامح بين الأديان والأجناس، جعلها قرية حصينة، وسعي إلي مقاومة الظلم والاستبداد والعبودية، حيث صار بيته ملاذا للعبيد والفلاحين الهاربين من جور الأسياد، وفي ليلة زفاف حفيده سالم استعاد هيبته في القرية، بعد أن دبر مكيدة لرجال الباشا مع مروان بن خليل الطوبجي الذي سعي للانتقام لموت أخيه صفوان، فكان ثمن تطهير القرية حفيده سالم الذي لقي مصرعه بعد ساعات من زفافه مثل أبيه مبروك، ولم يتحمل عامر موت أخيه، فهام علي وجهه كالمجنون، بينما عمران اعتبر ابنة العبد الأرميني هوجسيان مسئولة عن موت الحفيد والابن، في حديثه مع مربيته حليمة: " بنت العبد قتلتني مرتين.. قتلت ابني ودفعت ابنها للموت". بينما حليمة تعتبرها منحوسة، فكل من يري عريها يموت؛ أمها ماتت بعد ولادتها، زوجها مبروك، سقط من فوق سطح البيت ليلة زفافه عاريا، وكذلك المملوك الذي رآها عند النهر، أثناء محاولتها الانتحار، إضافة إلي ذلك فقد بقيت هند ساذجة، حتي بعد أن صارت جدة، فتنهرها حليمة، كلما بدأت في الحديث عما حدث ليلة الزفاف : "خلاص يا مفضوحة". القلق الوجودي علي عكس باقي شخوص الرواية، يشترك عمران وابنه مبروك في معاناتهما الفقد والاغتراب، فالأب عمران يظنه من لا يعرفه مجنونا، وهو يلعن الأشباح، ويقذف السماء بحجر، متذمرا من عبثية الأقدار، وتلك اللعنة الغامضة التي تطارده كل خمسين عاما. أما مبروك فينظر إلي السماء: " تساءل عن معني الموت. عن ضياع بلد بكامله، في لحظات غضب لفيضان أحمق، يلتهم العابد والعاصي. عن غياب عروس في الطمي، قبل أيام من تحقق حلمها بالزواج. عن انطفاء فرح أمها بزفافها، بل عن عدم تمكن هذه الأم من الحزن علي عروس ماتت بلا عزاء ولعن حياة تأتي في لحظة نشوة، وتذهب عبثا. يأتون من عدم، ويذهبون إلي عدم، فلماذا لا يعفون من هذا العناء؟" الولي الحشاش بموت أخيه سالم، اختفي عامر من القرية، وعند لقائه بامرأة، (وقد كان زير نساء، لا تسلم من حبائله حتي العاملات في الحقل، بل يتفنن في إذلالهن) وعند ممارسته الحب مع تلك المرأة، نفر البغل، وخلع أحد أوتاد الخيمة، فسقطت فوقهما، ولم يباليا بذلك... ثم باركته وليا، وأشاع عنه جيرانها الصلاح والتقوي، فزاد مريدوه، وتناقل الناس كراماته، وتهافتت عليه النساء يهبنه أنفسهن، ولكي لا تتعذب روحه لحظة خروجها، مثل روح أخيه الذي مات فوق ظهره، دون أن يدري.. لجأ إلي الحشيش، للإفلات من الألم، متمنيا أن يأتيه الموت وهو نائم أو سكران، حسب بوحه للقهوجي علي الله، الذي كلف بالبحث عنه. وبعودته إلي البيت، سيتحسر علي السنوات التي ضيعها بعيدا عن صفية بنت الحلبي، وبعد خروجه أعلن زواجه بها، فاعترضت الأم هند لأن صفية بلا أصل، بينما الجد عمران بارك زواجه معتبرا رحلة الجنون قد بدأت مع ابنه مبروك، الذي اختار بنت العبد زوجة، أمّا الجدة حليمة التي تعتبر أروع الشخصيات النسائية بالرواية، (بل إنها تبدو لي مرسومة بنفس الروعة التي رسم بها محمد البساطي شخصية الجدة في روايته "أوراق العائلة"). إنها شخصية آسرة في لحظات ضعفها وقوتها، ساحرة بأمومتها الفياضة، رغم أنها لم تتزوج، لاذعة بتعاليقها، وتزداد سحرا في شيخوختها. توبخ الجدة حليمة الجدة هندا، فيقبل عمران يدها، كي تكف عن سباب أمه : "فدفعته بقوة لا يدري من أين لها بها: وأنت، يا سُخام الحلّة، كيفك حَبَك ساعة وصولك! وأتبعت بشيء من الغيظ: وعلي الدقيق يا فاجر ! طمأنها: خير ربنا ما له حدّ يا جدّتي. وابتسمت فأحس عامر بالراحة: لكنك يا جحش أقلقت نومي!". بعودة عامر، تتنفس أوزير الصعداء، حيث سيتولي وأهالي القرية التصدي للجنود الفرنسيين، لكنه سرعان ما يقع في الأسر، ولن يتم الإفراج عنه إلا بتوقيع هدنة، مقابل إطلاق سراح الأسري الفرنسيين، وبموت صفية وهي تنجب إدريس ويحيي، يعتبر عامر ابنيه قاتلين صغيرين فرّقا بينه وبين زوجته، وسرعان ما سيغرق في ملذاته بعد زواجه بالأرملة زهرة، فتنقلب الأوضاع، ويتمكن منصور بن علي الله القهوجي (الذي وشي بعامر) من كسب ثقة عامر، ثم بسط نفوذه علي القرية. تواطؤ النقد والإعلام تتميز رواية سعد القرش بلغتها الشاعرية، وانسيابها السردي الآسر الذي يذكرنا ب"أحمر خفيف" لوحيد الطويلة، و"ليلة عرس" ليوسف أبو رية، لكن ما يثير الاستغراب هو هذا التجاهل المتعمد لرواية رائعة كهذه، تري من المسئول عن مثل هذه المذابح الأدبية التي لا تقل بشاعة عن جرائم إبادة الأقليات؟ لماذا تقابل "أول النهار" بكل هذا الصمت الكريه؟ هل يكفي أن يتم إقحام بعض الاكلشيهات السياسية أو الدينية في المتن الحكائي دون توظيفها فنيا، أو بمعني أصح : دغدغة الثالوث المحرم لكي تتسلل - في غفلة من الزمن- إلي قائمة الكتب الأعلي مبيعا، بغض النظر عن المستوي الفني للعمل، وموهبة الكاتب، وهذا يكون علي حساب نصوص متميزة لكتاب مكرّسين؟ رواية "أول النهار" تستحق- وهذا أقل تقدير لها- أن تترجم إلي فيلم سينمائي أو مسلسل تليفزيوني، لاسيما وأنها تتوفر علي كل مقومات الفرجة البصرية.. من إثارة، وحالات إنسانية، ومشاعر متضاربة، وأحداث متشعبة، فضلا عن وجود جزء ثان للرواية، وهو رواية "ليل أوزير"، وربما كان سعد القرش يعكف علي كتابة الجزء الثالث.. يكفي أن موت صفوان علي يد شيخ البلد كان انتقاما من حركة الحمار العفوية، إذ حرك رأسه، فأصاب شيخ البلد في حجره، فضحك السادة الجالسون معه، وظنهم يسخرون منه، فضرب رأس الحمار بسوط، فنفخ من منخريه ما ازدرد من برسيم، ومال جلباب الرجل إلي الاخضرار.