احتفلت أوبرا القاهرة بمرور مائة وأربعين عاما علي تقديم أوبرا عايدة للموسيقار الإيطالي «فردي» علي خشبة الأوبرا.. التي أقامها الخديو إسماعيل. وقدمت لنا بهذه المناسبة الإعداد الدرامي الجديد الذي قام به عبدالمنعم كامل لهذه الأوبرا الشهيرة.. ودار بها عددا من عواصم العالم منها «بكين» الصينية التي بادلت هذا العرض بتقديم أوبرا بوتشيني «توراندوت» التي تدور أحداثها في الصين لتقديمها علي خشبة أوبرا القاهرة .. بشكل نموذجي وإبهار إخراجي ليس له مثيل . عايدة هذا العام غنتها لنا السوبرانو الإيطالية المدهشة «سارة جاللي» إلي جانب التينور الأمريكي «مارك هيللر» في دور «رادابيس» والألمانية «كريستين كنورن» في دور الأميرة «امتريس» واحد من أصعب أدوار الأوبرا وأكثرها دقة وتعبيرا وجمالا غنائيا. تدقيق وفضول وقد ترافق تقديم هذه الأوبرا كتاب ضخم بالغ الفخامة.. مليء بالصور التذكارية وصور الديكورات والأفيشات والثياب التي تعاقبت في تقديم «عايدة» منذ عرضها الأول وحتي آخر عروض لها هنا في القاهرة. الكتاب كتبه ودققه وجمع وثائقه الدكتور عباس أبو غزالة بجهد مليء بالحب ومليء بالاهتمام المشوب بفضول ثقافي وفني وغنائي ملفت للنظر .. ويملأ الكثير من الفراغات والأسئلة التي كانت تدور حول هذه الأوبرا ومصادرها، والطريق الطويل الذي سلكته في أرجاء الدنيا منذ انطلاقها من مصر وحتي وصولها إلي أركان العالم الأربعة التي تزهو كل بلد بتقديمها علي طريقتها.. معتمدة علي الإبهار الشكلي الذي يميزها .. وشعبية الألحان الكثيرة التي تزخر بها والتي نهل منها موسيقارنا الكبير عبدالوهاب بأكثر من لحن له والتي حاول محمد القصبجي أن يقدم لها معادلا شرقيا للفصل الثالث غنته أم كلثوم مع نخبة أحمد وإبراهيم حمودة في مقطع من فيلم لها يحمل العنوان نفسه «عايدة» وأخرجه أحمد بدرخان. نسخ أصلية الدكتور عباس أبو غزالة حاز علي شهادة الدكتوراه الخاصة من جامعة السوربون الفرنسية وهو مؤرخ ومترجم عمل في المركز القومي للبحوث في المسرح الأوروبي بباريس، وقد استطاع بفضل حبه لمصر ولأوبرا عايدة بالذات واهتمام المركز علي أيام الخديو إسماعيل .. ونهضة مصر الثقافية في القرن التاسع عشر أن يحصل علي نسخ من الصور الأصلية لتصميمات ملابس وديكور «عايدة» التي قدمت لأول مرة في القاهرة سنة (1871) وقد أثري مكتبة الأوبرا بهذه المجموعة قبل أن يضمها إلي هذا الكتاب الشيق الذي يضم أبوابا عدة تشمل الشخصيات التي ساهمت في نشأة أوبرا «عايدة» .. وفك الالتباس الحاصل من تقديم «عايدة» لأول مرة في أوبرا ميلانو أو أوبرا القاهرة، وأخيرا رأيه الخاص كيف استوحي «فردي» أحداث «عايدة» من وجه مصر .. وباب آخر يحلل فيه موسيقاها قبل أن يتكلم عن علم الآثار وعلاقته بعالم «عايدة» ثم يصل إلي تحليله للخيال الذي شطح أحيانا كثيرة في تفصيلات جمالية رائعة لملابس وديكورات عايدة، إلي جانب وقوفه أمام العرض الكبير الذي أقيم أمام الأهرامات لهذه الأوبرا فأعطاها جلالا ومذاقا سحريا لم تستطع كل مسارح الدنيا أن تعطيها إياه. في كل هذه الأبواب التي زينها الدكتور أبو غزالة لكثير من الصور والتفاصيل والتي تضفها مباشرة في قلب الأحداث والتي تحاول «إعادة حياة مصر القديمة من خلال الديكور والأزياء» كما يقول عالم الآثار الفرنسي الشهير «جان مارسيل هيمبار». خلفيات تاريخية هذا كله يقودنا لأن نري الأوبرا التي يقدمها بإطار جديد «عبدالمنعم كامل» بعين «جديدة» ومن خلال خلفيات تاريخية وثقافية لها دلالتها الكبيرة، الأوبرا بحد ذاتها حدث فني مهم .. والكتاب الذي صدر عنها لا يقل أهمية في مداه واتساعه والحدود التي يرسمها والأفاق التي يدفعنا لتأملها. نظرة علمية مختلفة بولع فني حاذق وبرؤية جمالية متمكنة في عمقها وتأثيرها . أما ما فعله «عبدالمنعم كامل» في إخراجه المتميز لهذا العمل فهو شأن آخر، ركز «كامل» كثيرا علي الإبهار المسرحي .. والحركة المسرحية وإدخال الفنون كلها من باليه واستعراض وحشود بشرية وكورال متميز لتقديم صورة أخاذة بصرية للعمل. وبالطبع فقد ركز «كامل» علي الإضاءة وعلي اختيار الألوان الزاهية للثياب .. مستعملا الظلال في الفصل الثالث.. وفي الفصل الرابع .. مع التركيز علي اللون الأسود وخصوصا في ثياب «امتريس» التي جاءت بالغة الروعة. كما استبدل «كامل» المقدمة الموسيقية للأوبرا بمشهد باليه حاول أن يلخص فيه أبعاد المسرحية من خلال أداء حركي .. عرفت «أرمينيا كامل» كيف تضبط إيقاعه. كما استعمل في فصل الختام شارة الحياة العملاقة عند الفراعنة.. ليقف أمامها «رادابيس» بعد أن جعلتها الإضاءة .. تبدو وكأنها عمود من نور أبيض روحاني. وكأنه أراد أن يقول إن الأحكام الظالمة أودت بحياة «رادابيس» ودفنته حياً. لكن نقاء حبه وسمو روحه وإخلاصه لمبادئ قلبه كان شفيعا له لتجديد الموت .. لذلك فإن شارة الحياة هي التي ستظلله إلي الأبد مع معشوقته عايدة .. بينما تقف الأميرة «امتريس» في طرف المسرح في ثيابها السوداء كتلة من نور .. وحيدة مطفأة تنعي حبها المفقود. لا يمكن توجيه اللوم إلي «كامل» لتركيزه علي الإبهار في الفصول الأولي خصوصا استعراض الانتصار العسكري الكبير وهو ما تعودت كل أوبرات العالم تقديمه بأقصي ما يمكنها من وسائل الإبهار. ضوء القمر لكن «عبدالمنعم كامل» عرف كيف يصل إلي أعماق العمل في فصله الثالث الذي تدور فيه الأحداث علي ضفاف النيل وتحت ضوء القمر.. مع صوت الابتهالات الدينية القادمة من المعبد القريب .. حيث ستدفع «عايدة» العاشق «رادابيس» إلي خيانة وطنه والاعتراف بموقع جيوشه السري. في هذا الفصل الذي يعتمد علي المقدرة الغنائية العالية ترك المخرج المجال كاملا للمغنيين لكي يبدعوا، ولموسيقي «فردي» كي تتسلل إلي القلوب والأفئدة. وساعدت روعة صوت «سارة جاللي» إلي إيصال المتفرج إلي أقصي درجات النشوة والثمل بهذه الموسيقي المدهشة التي ابدعها «فردي» والتي لا تماثلها في قوتها الدرامية أوبرات «فاجنر». كتاب «عايدة» للدكتور عباس أبو غزالة وأوبرا «عايدة» لعبدالمنعم كامل أغرقانا في بحر من النشوة وسحابة من الإبداع رفعتنا بقوة عن الواقع الفني الذي نعيش فيه والذي يحمل في طياته الكثير من خيبات الأمل.