السينما الآن في مفترق طريق: الطريق الذي سلكته منذ أول آلة تصوير سينمائي، تلك التي ولدت في ورشة البصريات بمدينة سيتوتاس عام 1895، انها سينما الإخوة لوميير، لا أحد منهما منتج أفلام، ولا أحد منهما فكر في تجميع الرغبات المكبوتة لدي أبناء الشعب، ليجعلها تتفجر علي شاشة العرض. لم تكن لهما عقلية تاجر الفراء الأمريكي «ليميل» ولا «مطبخ» سيسيل دي ميل، كان هدفهما هو تجميع جزئيات الواقع، لتعرض مكبرة علي شاشة عرض، كي نتوقف أمام تفاصيل، إيقاع حياتنا فتتسع رؤيتنا لنا، ولمن حولنا. هذه السينما: «مصنع الأحلام» هي ما ثار عليها شباب فرنسا في الخمسينات، وعبروا عن ثورتهم بتحليل ونقد أفلام هوليوود، واتخذوا من مجلة «كاييه ديسينما» كراسات السينما» منبراً لهم وعلي صفحات هذه المجلة كتب واحد من نقاد تلك الجماعة، هو «إلكسندر استروك»، مقالاً بعنوان: «الكاميرا، قلم» وكان يقصد بذلك أننا نستطيع، بالتوقف أمام وضع إنسان في مكان ما، ووضع من حوله، ونتبعه، لندرس سلوكه أو نتعرف لا علي نزعاته هو فحسب، بل علي نزعاتنا. كان الهدف تكبير تفاصيل الواقع كي نراه، ونري ماذا نفعل في دروبه المتفرعة يميناً ويساراً. كان ذلك عام 1956، ان لم تخني الذاكرة، وهذا المفهوم الجديد للسينما هو ما سيطر علي من وقتذاك إلي الآن، ولي دراسة طويلة عن إلكسندر ستروك ودوره في انتقال السينما من سينما الحرفيين إلي سينما الفنان، هو ما لخصه في عبارة: «سينما المؤلف». الدراسة منشورة في عدد يناير 1968 بمجلة السينما، وتداعيات الناقد المبدع سمير فريد نشرها في الكتاب الذي كرسه لتقديم مختارات من مقالاتي ودراساتي السينمائية. وأذكر ان أول مقال نشرته في الأهرام في أكتوبر 1962 فيما أذكر، كان بعنوان «السينما: ثقافة + كاميرا 16 مم». وكاميرا 16 ملليمتر هي التي كانت متاحة وقتذاك لصنع أفلام بعيدة عن «وصفة» الإنتاج التجاري. أهم حدث وحتي 1959، لم تكن هناك معاهد سينما في مصر، وكان افتتاح المعهد العالي للسينما في أوائل أكتوبر 1959، أهم حدث ثقافي وقتذاك، لأنه يضع الطالب أمام المفردات الحقيقية لإخراج فيلم ما: التشكيل، الموسيقي، نظريات الضوء، جماليات الصوت، الإيقاع في المونتاج، إلخ.. إلخ. نظرياً، كانت تلك هي المناهج الأولي للدراسة بالمعهد العالي للسينما ولما كانت الدفعة الأولي ستتخرج عام 1993، فكان أمامنا سؤال: هل نتركهم للسوق، لمنتجين من أصول الاستيراد والتوريد وأعمال أخري؟ كان لابد من إنشاء وحدة تجريبية، وبدأت عملها بإنتاج فيلمين لهما موضوع واحد: هو شنق زهران في مذبحة دنشواي الشهيرة، لم يكن هناك حوار، بل قصيدة لصلاح عبدالصبور وتجريب تحويل مفردات الشعر إلي مفردات بصرية سمعية لهو أول خطوة نحو خلق سينما خالصة، موضوعها ينبع من مفرداتها. وعهدنا إلي اثنين من خريجي الدفعة الأولي: ممدوح شكري وناجي رياض، وكانت بداية رائعة. ورشة إنتاج إلا أن المعهد أصبح نقطة «نيشان» بالنسبة للإنتاج التجاري، وقد تكاتف المخرجون الذين يلعقون ما يقع من جيوب المنتجين من قروش، وسعوا إلي ان تصدر الدولة «فرمانا» يقضي بأن يعمل خريج معهد السينما 14 عاماً كمساعد ثان، ثم أول، حتي يصبح مخرجاً. كان معني ذلك، ان تتحول السينما إلي ورشة إنتاج بدلاً من ان تكون إبداعًا فنياً يعطينا مخرجوه رؤية لعالمنا، ولمن حولنا، طوال 50 عاماً وأنا أكرر هذا الذي أقوله اليوم، فما كانت ثمرة ذلك؟ من الجنون أو البارانويا ان تتصور انك وحدك تستطيع تغيير واقع ما، خاصة إذا كان مصدراً لملايين الجنيهات «بعملة ذلك الوقت» ومصدرًا لخلق «معبودات» «IDOLES»، واحدة معبودة الجماهير، والثانية سيدة الشاشة العربية، والثالثة النجم الأوحد.. إلخ. كان لابد من إنشاء اتحاد لخريجي معهد السينما. كان القانون يحرم إنشاء نقابات، أو اتحادات ماذا نفعل؟ أبسط الأمور أن تنشيء جمعية، ذلك هو المتاح، وكأي جمعية، مثل الجمعيات الخيرية، لابد من ان تخضع لوزارة الشئون الاجتماعية. لا بأس ليكن السينما الجديدة وفي عام 1968 كان ميلاد جماعة السينما الجديدة، ولد بداخلها أهم نقاد في مصر، فتحي فرج، هاشم النحاس، خيري بشارة، «قبل ان يصبح مخرجا» وبالطبع الأب الروحي سمير فريد. وإلي الآن، كم يدرس ناقد أو يخرج بيان الجماعة، فمازالت استراتيجيته صالحة للتطبيق إلي الآن. والأهم من ذلك كله ظهور مخرجين جدد: ممدوح شكري، أشرف فهمي، خيري بشارة، عاطف الطيب، وسمير سيف، وداود عبدالسيد، محمد عبدالعزيز، وعلي بدرخان، كل منهم أخرج أول أفلامه الطويلة عقب تخرجه من المعهد مباشرة، دون ان يقضي فترة العقوبة، أي 14 سنة. لكن لولا دعم الدولة لبراعم ذلك الوقت، لظل أغلبهم يعمل مساعداً للإخراج، فبفضل إيمان رجل كالدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة وقتذاك، ومنشيء معاهد الأكاديمية، كانت الستينات هي العصر الذهبي للثقافة عامة، وللإبداع السينمائي بصفة خاصة. وتسأل: لماذا أقول هذا اليوم؟ أقوله بعد أن أصبحت السينما مادة إجبارية في نحو مائة كلية ومعهد في مصر الآن، مادة إجبارية في شعب الإعلام بأقسام الاجتماع بكليات الآداب، مادة إجبارية في كليات التربية النوعية، مادة إجبارية في إنتاج برامج الفيديو والدراما المرئية والدراما المصورة. أين مشروعات تخرجهم؟ أين تعرض؟ وأين يعمل الآن خريجو هذه الكليات؟ ولقد حرصنا، زملائي وأنا، بهيئة التدريس بجامعتي الإسكندرية والمنوفية، حرصنا علي إدخال مادتي: «السينما التفاعلية» والفيديو التفاعلي، وذلك منذ 1995، ولك ان تحصي عدد الخريجين في هذه المدة، أين هم؟ شئنا أو لم نشأ، سيصبح الإرسال بالألياف الضوئية، لا دش ولا كابل، و لا ستالايت، تماماً كالإنترنت. وتلك الدفعات هي وحدها القادرة علي مسايرة هذا التطور، بينما كل مافي التليفزيون وستديوهات السينما الحالية سيقام له متحف تاريخ البصريات والسمعيات ومع ذلك وجدت فجأة بعض عناصر إجابة. كان ذلك بالإسكندرية وكنت أقوم بتدريس مادتي المسرح المعاصر والسينوجرافيا بقسم المسرح بكلية الآداب، ودعاني عدد من الطلبة لمشاهدة أعمال لزملاء لهم، شاركوا فيها بالتمثيل كان أهمها مجموعة أفلام كتبها وأخرجها، وبعضها صورها عدد من خريجي كلية سان مارك، ثم أعمال أخري من إنتاج استديو «شبابي» هو استديو غيج ليفي «أوراق التين»، ثم فيلم شاعري للغاية مخرجه مصطفي العو علي وعي بأن السينما هي فن المكان، كيف يضغط علينا، كيف نقاومه كيف نندمج أو تنفصل عمن حولنا، البناء دائري: المارة حول ميدان، ومجموعة تذهب إلي ما لا ندري، وتحت تمثال يتوسط الميدان كفيف جالس يمد يده، البعض يعطيه ما تجود به نفسه، والبعض الآخر يتصوره ممثلاً لدور الأعمي، لكن في النهاية، ينهض الكفيف بعد ان احتوي المكان. فيلم آخر علي أعلي مستوي من الوعي الاجتماعي- السياسي، هو فيلم بعنوان «كلنا نريد» ومن السياق، نعرف معني كلنا نريد: إنه السلام الشامل الدائم لكل شعوب العالم. الفيلم مونولوج طويل، لا حوار هنا، بل شاب يريد جهاز التليفزيون ليتابع نشرة الأخبار، فإذا بكل ما يشاهده شهداء في غزة، أطفال معوقين، مدافع تقذف اللهب للقضاء علي حياة البشر، إنها نشرة كل يوم وتضيق نفس الشاب بما يري فيتهيأ للخروج، هل يرتدي هذه الثياب؟ لا بعد تناول القهوة؟.. لا، بعد ان يشاهد مرة أخري مصائر من يندرجون تحت تعريف: «الإنسان». الفيلم مخرجه محمد الكاتب، هو أيضاً السيناريست، أي انه المؤلف الكامل لعمله. وحول هؤلاء «المؤلفين الكاملين» باقة من الممثلين والمونتيرين والمصورين ومسجلي الصوت، يبرز خلالها المصوران محمد سعد ومحمد معتمد بحركات كاميرا هي لمسة فرشة رسام، كذلك الممثلون مصطفي الفقي وإسلام نجيب ومنذر الفخراني الذي قام بأداء دور الأعمي في فيلم مصطفي العو «النهارده يوم جميل» وولدت براعم جديدة في المونتاج الإيقاعي، في مقدمتهم أحمد طارق عبدالعزيز.