عندما لاحت فكرة عقده في العام 2000، كانت الدعوة إلي المؤتمر الأول للمثقّفين المصريين أكثر بساطة، وأقل تعقيدا وغموضا. تمثّلت لي، علي أنّه من حقّ حملة الأقلام بل من واجبهم- علي أي قطعة من الأرض- أن يجتمعوا ويستدعوا ثقافتهم، لتنظر في التغييرات التي حصلت في غضون العقود القليلة الماضية، و ما ينتظرنا أكثر في العقود القادمة. وقد بلغت الطبيعة في الإنسان ما هو أبعد من الانتظام الجامد للظواهر الفيزيقية، يتحكم في الطاقة الهائلة بنواة الذرة، ويتحرك علي كوكبه بسرعات الإفلات من الجاذبية ويتصل بإخوانه بسرعة الضوء ويوسع قدراته الذهنية باستخدام الكمبيوتر.. وكل يوم تتغير رؤيته لنفسه وللكوكب الذي يعيش عليه والكون الذي يحتوي ! ليست بدعة كتبت أول مقال لي حول تعضيد الفكرة، بأنها ليست بدعة، وأن روابط الأقلام تملأ الدنيا حولنا في أوروبا وأمريكا وكندا..قامت وعاشت واستمرت تجتمع دوريا وطارئا، وتناقش، من الوقوف ضد اضطهاد الكتّاب ،إلي مساعدة أسرهم إلي صورة العالم من خلال الأدب العالمي ..وتسعي الثقافة لتجسيد وتعزيز حريتها بتقرير أهميتها كمدخل إلي ميادين شتي خاصة التنمية، من خلال سلسلة من المؤتمرات الدولية. بدأت بالمؤتمر الدولي حول السياسات الثقافية والذي عقد بالمكسيك عام 1982، والمؤتمر العالمي للسياسات الثقافية من اجل التنمية والذي عقد في استكهولم عام 1988 بهدف لفت الانتباه إلي أهمية الثقافة كجزء متكامل من استراتيجيات التنمية علي المستوي الدولي والقومي. وأخيرا وليس آخرا، مؤتمر جوهانسبرج عام 2002 والذي خصص جل اهتمامه لمفهوم التنمية المستدامة، مع لفت الانتباه أيضا إلي الدور الذي يمكن أن تلعبه الثقافة في استدامة التنمية وتحقيق التوازن المنشود بين الإنسان والبيئة. ولعل العمل علي إصدار التقرير الثقافي العالمي WORLD CULTURE REPORT (اليونسكو) خير مشير لأهمية المدخل الثقافي في التنمية. أمّا أكبر أسئلة عصرنا، فهي التغيرات السريعة جدّا في ثقافة بشر يواكبون التحوّل البيومعلوماتي. كنا في مصر، من بين بشر غير قليلين علي وجه هذه الأرض في حاجة إلي استدعاء ثقافتنا، لاختبار قدرتها علي أن تبسط للناس خيارات جديدة.لقد مررنا بقدر لا يصدق من التغيرات منذ يوليو 1952أوصلتنا إلي حالة فكرية أقل ما نصفها بالتشوش، غير قادرين علي الفكاك من قيود الحاضر السياسية والاقتصادية والاجتماعية ولا من ثقافة الماضي! أضعفت السلطة السياسية حريتنا وقد تكدست في يد أفراد، كما أفقدتنا الثقة بسيادة القانون. أمّا الدين الذي وجد لهداية البشر، فقامت به جماعات إسلامية توظّفه في رحي الصراع علي السلطة، ورجال دين ودعاة جدد ورجال وسيدات إفتاء، يشغلون عقولنا بالترهات والمهاترات وحفظ الفروج وإرضاع الكبير..وبدا ما ننادي به من مجتمع ديمقراطي مستحيلا أو صعب المنال ،ومنحنا التعصب الحق في أن يحتمل وتقاتلنا حول زي المرأة وحقوقها، وحول علاقتنا بالمصريين المسيحيين! شهية المنطق كانوا بالنسبة لي أناسا مخلصين، كل من يسعي لأن يجعل للوطن دماغا، ينتزع جماهيره من هبوط نفساني، وقرف من أشياء كثيرة،وشلل في الأحلام والعواطف والطموحات ! من يقينا من الدخول إلي حالة كوما لنستعيد شهية المنطق قبل ذروة العافية. لن تكون الدعوة إلي مؤتمر للمثقفين المصريين سوي واجب وطني وضرورة ورحمة بمواطن أرعبه بطش الحاكم وسيطر عليه رجل الدين. غضضت الطرف عن المحاولات الرثة التي تفسر علي أساس سياسي، يوجد بيننا بالفعل من لهم عقائد خاصة باقية حول تقسيم المثقفين والديمقراطيين، إلي مستقلين وتابعين، وانتشرت بدعة الثوري والمقاوم والتطبيعي والخانع! وقد أثر في تشكيل الجميع سلسلة متتابعة من التحولات والتكيفات جرت علي الواقع المصري لأكثر من نصف قرن . !خلقت إساءة الظن وهذه التوهمات عن إخضاع المثقفين وإلحاقهم بحظيرة ما. و لما كانت إمكانية ضبط التلبس بالنية ودخيلة النفس أشياء لايمكن أن تكون من القيم العقلية، فالإجابة أبسط مما تحتاجه المشكلة التي نعالجها. ربما لم تتوفر من قبل الظروف التي مكّنت شخصا أو بضعة أشخاص (شعورهم ثقافة ) من دفع الفكرة من مجسمها! وهذا الخلط يبدو متهورا، بين مهمة المثقفين وبين كونهم أعضاء في سلطة ثقافية من أجل التوجيه ووضع القواعد وتنظيم العلاقات الثقافية. تظل مهمة المثقف المختلفة كأديب أو شاعر أو ناقد أو سينيمائي أو.. أو.. عالقة به حتي ولو كان بعضهم أعضاء في السلطة الثقافية. بعض حملة الأقلام في مصر الذين يفكّرون ويبشرون، ويقع علي عاتقهم ،إعادة التفسير وإعادة الابتكار وتحضير الإنسان للدخول إلي الحياة والتأقلم معها، وضعوا المعرفة والسلطة في تناقض لا تحكمه ظروفه التاريخية . والمشكلة مع هذه الطريقة في التفكير لا تقتصر علي تجاهل الظروف التاريخية المعينة فحسب، ولكنها تمتد لاستبعاد طرق اخري في التفكير ربما تكون اكثر نجاعة في فهم كيفية عمل كل من المعرفة والسلطة، وكيفية حدوث تدعيم متبادل بينهما وربما يكون من خلال التكوين المتبادل لكل منهما للأخري. سيضيع ما يقرب من عشر سنوات وقد ألجم المثقفون بأنفسهم، حركة المثقفين المصريين وتطويرها وبالتالي حركة المجتمع نحو الاندفاع إلي اللحاق بركب الحياة المعاصرة. ولم يكن الأمر سيكون بهذا السوء الحالي في الدين والسياسة والاقتصاد والمجتمع عموما إذا وثقنا بأن إبداع المثقفين من نقد و شعر وقصة وسينما له جدوي، إنهم يبدعون مرادفا للتحرر. وإنه لمدخل غير ثقافي والذي انتهي إلي انقسام بين المثقّفين، أن يري المثقّفون العارفون السلطة دائما باعتبارها فقط سلطة جهاز الدولة كقمع وقدرة علي المنع والمنح.إنه مفهوم يستبعد رؤية توزيع السلطة وانتشارها في مجمل النسيج الوطني الاجتماعي، سواء داخل أجهزة الدولة أو خارجها. وهذا المدخل مع الأسف الشديد يشبه مدخل الجماعات الإسلامية السلفية التي تحرم وتجرم وظائف الدولة وتقاضي مرتباتها! لا أحد غالبا يترك ثقافته أو معرفته خارج أبواب الأجهزة التي يضطر أن يعمل بها آلاف المثقفين ولو لأكل العيش. وكل من هؤلاء في موقعه ولمجرد كونه عارفا،سيسعي إلي التعبير عن معرفته بحيازة شرف الدفاع عن موقف سياسي أو اجتماعي أو ارتباط بمصالح المعوزين والمحرومين. وكل ما ينتجه من معرفة ولو بحكم المهنة،لن يخلو من قول الحق في مواجهة السلطة .لا يعقل أن يكون المخلصون الثوريون هم حفنة تعلن وتشير إلي نفسها، وآه لو نعرف كم هم متنازلون عن السلطة حتي ولو مارسوا عملا حرا! و علينا دائما أن نميز بين من يريد السلطة لنفسه وبين من يريدها للتوحد رمزيا مع الذين يعانون منها.. والذي يريدها لنفسه سيبتعد إن عاجلا أم آجلا عن اللغة التي سوف تتحول علي يديه إلي أداة للتدليس والنفاق والديما جوجية. وما بين اجتماعين أحدهما انعقد بدار الأوبرا وضم حوالي ستمائة، وآخر اجتمع بنقابة الصحفيين وضم أكثر من ثلاثين تحت اسم" المثقفين المستقلين " يستمر التقسيم الذي عفا عليه الزمن بين المثقفين. ولاحس مشترك بين الواقع كما يرسمه البعض علي لوح زجاجي أملس وبين الواقع الفعلي . والمفارقة بين الواقعين كانت دائما موجودة وكانت دائما صارخة طوال عقود تبدلت فيها المواقع، وكانت الثقافة دائما حرة كالهواء تقدم التفسير للذي يجب أن يرفضه المثقف حتي لو اضطهد ولوحق في ظروف حياته وحبس وعذب. ورب ضارة نافعة، فلعل تكثيف حضور التناقضات الثانوية ( طالع الموضوعات التي تطرحها اللجنة التحضيرية هنا وهناك) يؤدي إلي طرح التناقضات الرئيسية .. لا أظن أن المثقفين في مؤتمرهم الأول - والذي لا أعتقد أن يكون نهاية المطاف - بقادرين علي أن يصلحوا ما أفسده الدهر، حسبهم في مؤتمرهم الأول أن يمنحونا أملا في أن نقدر علي أن نتحدث سويا ومع عائلاتنا ومع الآخرين..