تقول الأمثال الشائعة «إن من يحب كثيرا.. يحاسب كثيرا».. وهذا المثال ألح علي بقوة وأنا أشاهد فيلم أحمد حلمي الأخير «بلبل حيران» الذي أخرجه له كالمعتاد مخرجه المفضل خالد مرعي. كوميديان موهوب اعترف أنني كنت من أول المعجبين بهذا الكوميديان الموهوب منذ أن رأيته ممثلا مساعدا في كثير من الأفلام المصرية.. إلي جانب نجوم كبار آنذاك.. وقف معهم رغم صغر أدواره وقفة الند.. بل إنه كان حسب رأيي يسرق منهم أحيانا الأضواء كلها.. إلي أن جاءته الفرصة ليستأثر بالبطولة المطلقة لوحده.. والتي أثبت أنه جدير حقا بها.. ولمع اسم أحمد حلمي كواحد من أهم شباب الكوميديا في مصر.. ذكاء وحضور ودقة في اختيار أدواره التي كانت تسير في خط تصاعدي.. يشتد بين فيلم وآخر إلي أن وصل إلي نقطة اعتقدنا فيها أنه لا صعود بعدها ولكن أحمد حلمي أثبت العكس.. واستطاع أن يخرج بالكوميديا المصرية إلي آفاق جديدة لم نعتدها من قبل اختلط فيها البعد النفسي العميق مع التحليل الاجتماعي الثاقب.. دون أن تفقد ميزاتها الكوميدية الأساسية، ولم يعد غريبا علينا أن نري حلمي بعد ذلك محورا أساسيا لكل أفلامه.. لدرجة الاستغناء عن بطلة نسائية تقف أمامه.. مكتفيا بحضوره وكثافة تواجده.. كما مثل في فيلمه قبل الأخير.. الذي بدأ يعطي «إشارات إنذار» مبكرة.. رفض إعجابنا العميق بحلمي وثقة بذكائه وبعد نظره أن يصدقها.. ولكن مع الأسف تعاظمت هذه الشارات حتي أصبحت خطرا حقيقيا.. يهدد كيان هذا الممثل الكبير الذي عقدنا حوله آمالا عظمي من أجل تطوير الكوميديا السينمائية المصرية التي انحدرت في الآونة الأخيرة إلي هوة دون قرار. نرجسية واضحة بلبل حيران.. الذي جمع فيه أحمد حلمي كل «السيئات» التي حاول تجنبها بنجاح في أفلامه ما قبل الأخير والتركيز علي شخصية.. وشخصية .. النرجسية الواضحة في الأداء وفي التعبير وفي طريقة تناول الشخصية، الاعتماد علي «الإفيهات» التي تتوالي وتتكرر.. وتزداد وتتعاظم دون أن يعبأ بأي خيط درامي متماسك أو منطقية درامية مقنعة «الاستظراف» في مواقف لا يحسن فيها الاستظراف.. وغمزات العين المستمرة لجمهور يتوقع منه أن يضحكه بأفيه أو حركة.. أو رد فعل. كاد المرء لا يصدق وهو يري «بلبل حيران» أن من يراه علي الشاشة بتسريحته التي يقلد فيها تسريحة «جروشو ماركس» وصدره المكشوف.. وتعبيراته الصارخة.. والإفيهات التي يلقيها «عمال علي بطال» بضرورة أو بلا ضرورة.. هو هذا الممثل العملاق الذي رأيناه في «كده رضا» وكاد يبكينا تأثرا.. رغم البسمة المرسومة علي وجوهنا.. وهذا الكوميديان الماهر الذي عرف كيف يعزف علي أوتار ثلاثة مختلفة في «آسف علي الإزعاج» أو هذه الكوميديا المتقنة المتماسكة في جذورها وفي فروعها «ألف مبروك» لقد ذهب ذلك كله بجرة قلم واحدة.. وبإفيه طويل لا ينتهي أطلق عليه اسم «بلبل حيران». كدمات وكسور الفيلم يبدأ في مستشفي.. ونبيل «بلبل» موثق في فراشه.. تثمن بالجراح والكدمات والكسور تعتني به ممرضة شابة.. ومنذ الحوار الأول وقبل أن نتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود.. يغرقنا «بلبل» بمجموعة من الإفيهات التي ستهيئنا بقول المزيد منها حتي التخمة.. وحتي نهاية الفيلم. السيناريو مبني علي حديث طويل بين المريض الذي تكسرت عظامه وبين الممرضة التي ترعاه يروي فيه «مأساة» ونراها نحن من خلال فلاش باك.. يروي فيه علاقاته مع النساء.. وموقفه من الحب والحياة.. فهو شاب ملهم.. تقع النساء كلها في حبه.. بمجرد الحوار معه وسماع «الدرر» التي تتقافز علي لسانه «يسقط» إحدي العاملات معه في الاستوديو بعد أن «يسرق» هاتفها المحمول الذي نسيته.. ويحاول «ابتزازها» بواسطته لإقامة علاقة معها.. مهددا إياها.. ببث صورها بالمايوه الأحمر «!!» وعندما تقع الفتاة في هواه.. يناورها قليلا قبل أن يوافق علي أن يطلبها من أبيها الثري.. ولكن يكتشف أن لها شخصيتها المميزة التي تسيطر علي شخصيته.. فيحاول التخلص منها بأن يشرح لها مزايا الانفصال وأن فسخ الخطوبة يلائم الفتاة أكثر من الطلاق، لأن «المفسوخة» وهذا هو تعبيره.. فرصها الحياتية أكبر من المطلقة. مساوئ الطلاق وينفصل عنها.. ليقع في حب فتاة متمرنة عنده.. هي علي النقيض تماما من الأولي.. مطيعة لينة لا تعتمد علي نفسها قدر اعتمادها عليه.. لذلك لا يحس أيضا بالأمان معها ويحاول تلقينها الدرس «إياه» ممن عاش الانفصال ومساوئ الطلاق. وعندما يصاب بحادثة تفقده الذاكرة لفترة يعود إلي خطيبته الأولي.. دون أن يترك خطيبته الثانية.. وتكتشف الفتاتان «اللعبة» فتقرران الثأر منه. لا أعرف حتي كيف ألخص سيناريوهات لا تعتمد علي الحكية والحدث قدر ما تعتمد علي «الإفيه» وقدرة الكوميديان علي التهريج والعبث والاعتماد علي «الكيمياء» التي حياه الله بها لجذب المتفرجين إلي عالمه. المهم أن الفتاتين تلعبان اللعبة.. التي تؤدي به إلي القفز من الطائرة دون مظلة.. والذهاب مكسور العظام إلي المستشفي حيث تبدأ أواصر صلة جديدة مع الممرضة التي تعاني مثله الحيرة من رجلين يتجاذبانها.. وينتهي الأمر كما بدأ.. بحيرة بلبل التي لا تنتهي. مواقف تثير العجب لا أريد أن أعدد المواقف التي امتلأ بها الفيلم.. والتي تثير العجب لا لغرابتها ولكن لقبول ممثل ذكي ولماح كأحمد حلمي بها.. كمشهد الفأر الذي يتسلل إلي الجبس الذي وضعته علي ساق أحمد حلمي «نعم.. فأر في مستشفي.. ويدخل إلي جبس المريض» ثم السؤال عن جنس الفأر هل هو ذكر أم أنثي.. والإفيه الفاضح الذي يتبع السؤال.. أو مشهد الطائرة والقفز بالباراشوت المغلق والذي لا يرينا بأي منطق قابل للتصديق، ربما كان هناك «إفيه» واحد بين كل هذه الإفيهات التي امتلأ بها الفيلم والتي أطلق عليها تجاوزا اسم «سيناريو» هو إفيه الشقة الغارقة بالماء والذي يعود نجاحه إلي مصمم الديكور أكثر مما يعود إلي الكاتب أو إلي المخرج. وبمناسبة الديكور لابد أيضا من الإشارة بديكور المكتب.. وأدراجه العلوية البيضاء والذي يدل علي ذوق مرهف.. لم تستطع أحداث القصة ولا التفافاتها أن تكون جديرة به. لا أريد أن أعدد الإفيهات التي كانت تثير الضحك بالصالة.. كإفيه السمكة العملاقة التي اصطادها والد الخطيبة والتي أسقطها بلبل بالماء أو إفيهات «تبادل البطلتين» أدوارهما لكي تثير الربكة والجنون في نفس «بلبل» وهي إفيهات مزيفة سبق أن رأيناها في بعض أفلام إسماعيل يس وبعض أفلام «أبوت و كوستللو» القديمة.. ولكن كل هذا أشبه ما يكون بفقاعات الماء العابرة.. التي لا تعبر عن موجة حقيقية.. أو تيار يسترعي الانتباه. خيبة أمل لقد استطاع أحمد حلمي بموهبته أن يثير الضحك والتأسي معا.. وهذا ما جعله يتميز علي جميع أقرانه الذين ظهروا معه.. بل ويتخطاهم بمسافات طويلة.. فما الذي أصابه فجأة.. وجعله ينكفي علي عقبيه ويركز علي الإضحاك فقط.. ضاربا بالتأمل والفكر الكوميدي السليم عرض الحائط؟! خيبة الأمل الكبيرة التي واجهتنا في هذا البلبل الحيران ليس كونه فيلما خلا من سيناريو جيد ومن حيكة منطقية معقولة.. ولكن كونه فيلما لأحمد حلمي بالذات. فقد يكون بلبل حيران فيلما ناجحا لو كان لممثل كوميدي آخر من كوميديي هذا الزمن.. ولكن أن يعصف بآمالنا هذا الشاب الذي وضع ثقل الفيلم الكوميدي المصري علي كاهله وحده.. أمر فاجع. سطحية السيناريو لقد أفسح حلمي المجال هذه المرة لثلاث ممثلات شابات أن يظهرن أمامه.. وأن يترك لهن هامشا وكأنه يعوض بذلك عن استغنائه عن البطولة النسوية في فيلمه السابق. والحق أن كلاً من الممثلات الثلاث.. حاولن جاهدات أن يرسمن صورة مقنعة لشخصيتهن.. ولكن سطحية السيناريو.. وعدم وجود مواقف حقيقية تعطي لأدوارهن اللحم والدم والعصب.. جعل مجهودهن يذهب هباء، وهذه إيمي سمير غانم رغم قلة تجاربها السينمائية استطاعت أن تترك أثرا وأن ترسم خطا واضحا لشخصيتها بطريقة أدائها.. لا بواسطة الكتابة السليمة لدورها. أما أحمد حلمي الممثل الذي أحببناه.. ووقفنا إلي جانبه معجبين مصفقين وعقدنا حوله الآمال كلها فقد سقط مع بلبله من طائرة الكوميديا العملاقة إلي الفضاء الواسع دون مظلة واقية. فهل يا تري.. أدي هذا المشهد في فيلمه هذا وهو يدرك تماما قيمته الرمزية وترك للمتفرج الذكي مهمة تفسيره؟!!