منذ أن تفجرت أصداء السينما اليابانية في أوائل خمسينات القرن الماضي.. وحققت هذا التواجد الكبير في المهرجانات العالمية والأنظار تتجه إلي السينما الآسيوية التي تقدم لنا عاما بعد آخر وبلدا بعد الآخر مناقشات سينمائية مدوية تجعلنا نعيد النظر في كل ما اعتدناه من قواعد سينمائية أكدتها السينما الأوروبية والأمريكية وجعلت منها حرزا مقدسا لا يمكن تجاهله أو تجاوزه. بعد السينما اليابانية انطلقت أصداء السينما الهندية ومن بعدها السينما الصينية بعد أن زال عنها كابوس الثورة الثقافية التي أطاحت بكثير من قيمها الكلاسيكية الثابتة. سينما جديدة وها هي أخيرا السينما الكورية «خصوصا كوريا الجنوبية» تأتي لتحتل مكان الصدارة في هذه الاتجاهات السينمائية الأسيوية التي أثبتت وجودها المؤثر سواء عن طريق أفلام رائعة أو مخرجين كبار أصبحت لهم «مدرستهم» الخاصة بهم وأسلوبهم المميزة وكثير من التلاميذ النابهين الذين يسيرون علي دربهم أو يحاولون أن يحذوا حذوهم. آخر هذه المفاجآت الفيلم الكوري الذي أثار ضجة كبري عند عرضه في مهرجان «كان» الماضي واستطاع أن يفوز بجائزة أحسن سيناريو .. كما رشحت ممثلته الأولي لجائزة التمثيل الكبري. الفيلم يحمل اسم «شِعر» وهو والحق يقال قصيدة حقيقية تختلط فيها المشاعر الإنسانية كلها علي تناقضها واختلافها أو انسجامها وتسلسلها الهادئ المستكين. المرأة العجوز الفيلم يروي قصة امرأة عجوز .. تعيش مع حفيدها في بيت صغير منعزل في ضاحية من ضواحي كوريا الجنوبية تاركة ابنتها «أم الولد» تعمل في العاصمة وتتصل بها بين حين وآخر تطمئن علي صحتها وسلوك ابنها. هذه السيدة التي تجاوزت الخامسة والستين من عمرها.. تعمل خادمة أو شبه ممرضة لرجل عجوز أصيب بما يشبه الشلل .. تعتني به وتمرضه وتحممه وتتبادل الحديث معه، ولكنها في الوقت نفسه تحاول أن تملأ فراغ حياتها لأن حفيدها قد قطع الصلة معها تماما فهو يعيش معها حقا ولكنه لا يبادلها الكلام إلي لماما.. ولا تستطيع أن تفهم منه أي رأي أو أي موقف حتي عندما تنتحر إحدي الطالبات، ويثير انتحار هذه الصبية التي لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها.. التساؤلات والشجن في نفس هذه المرأة العجوز التي تستعد لوداع الحياة .. فإذا بها تفاجأ بأن فتاة في عمر الورود سبقتها إلي هذه النهاية. إذن تحاول العجوز ملء فراغ حياتها بأن تذهب إلي مدرسة خاصة لتعلم الشعر وهناك تكتشف أن غيرها الكثيرون قد سبقوها إلي ذلك ويستمعون إلي ما يقوله استاذهم المعاصر الذي يؤكد لهم أن في قلب كل إنسان منا نبع من الشعر لا يعرفه وقد لا يحس بوجوده ولكن عليه إذا أراد أن يفجره يعيد النظر إلي الأشياء التي تحيط به ويحاول أن يبث فيها الحياة.. أن يجعلها تكلمه .. وأن يكلمها وبالتالي فإن هذه «الجوهرة» الصغيرة الكامنة في القلب تنبت لها أجنحة وتستطيع أن تنطلق وأن تحلق بعيدا. علينا ألا ننظر إلي التفاحة وكأنها ثمرة تؤكل .. بل كائن حي يمكن أن يحس وأن يهمس حتي أن تتغير زاوية الرؤيا.. حتي ينطلق الشعر كالجدول الصافي من القلب لا يوقفه أي حاجز. علينا أن نكسر الحدود التي أقمناها حول مشاعرنا وأن نترك عواطفنا تقودنا إلي حيث يقع المجهول وهناك نكتشف جنات أخري .. وسماوات ثانية وعالم مختلف . كتابة الشعر هذه الدروس المتتالية لا تكفي لدفع عجوزنا الذكية إلي كتابة الشعر رغم تشجيع أستاذها لها ورغم سماعها تجارب زملائها في الدرس .. الذي يقدم كل واحد منهم قصيدته التي نبعت من إحساس عام صادفه أو رؤيا معينة اخترقت قلبه. لكن الأحداث التي تعيشها العجوز هي التي ستفجر رغما عنها هذه الأحاسيس المخترقة من أعماقها إذ تكتشف أن حفيدها المراهق كان سببا رئيسيا لانتحار زميلته إذ تعاقب هو وخمسة من زملائه علي اغتصابها مما دفعها آخر الأمر إلي أن تقضي علي حياتها هربا من صحراء الجنس المخيفة التي تبدت إليها. كما نكتشف رغبة العجوز المشلول الذي تعتني به في أن يمارس الجنس لآخر مرة في حياته .. فيشرب حبة تقوية للجنس «فياجرا» قبل أن تقوم السيدة باستحمامه ويحاول أن يدعوها لممارسة الجنس معه كي يحس بإنسانيته ولكن السيدة ترفض بشكل صريح هذه الدعوة الماجنة ثم سرعان ما تعاود التفكير فيها طويلا محاولة أن تجد هي أيضا سببا مقنعا لاستمرار الحياة. وينتهي بها الأمر.. إلي أن توافق علي عرض المريض العجوز.. وتمارس معه الجنس حاملة له أملا براقا يلمع ويختفي كالسراب. ويستدعيها أهالي الرفاق الخمسة لحضورها ليخبروها بأنهم قد قرروا منح والدة الطالبة المنتحرة مبلغا كبيرا من المال .. كي لا تشكو أمر أولادهم إلي السلطة أو المدرسة خوفا علي مستقبلهم جميعا .. وأنهم قد تقاسموا هذا المبلغ في محاولة بائسة لإقناع الأم بالسكوت عن جريمة أولادهم وأن عليها أن تدفع هذا المبلغ المستحق إذا أرادت إنقاذ مستقبل حفيدها. وتعجز العجوز عن إيجاد المبلغ ولكنها تلجأ آخر الأمر إلي مريضها المشلول وتهدده بإفشاء الأمر إذا لم يدفع لها المبلغ المطلوب. بل إنها تحاول أن تقنع أم الضحية بضرورة الحفاظ علي مستقبل خمسة مراهقين لم يدركوا تماما مسئولية ما فعلوا.. وهنا في هذا المشهد الأليم بين المرأتين تعجز العجوز عن طرح الموضوع أمام الأم الجريحة وتكتفي بتأمل الفواكه التي رمتها الأشجار المثمرة أرضا والتي أصبحت ملكا للجميع وعادت إلي التربة التي خرجت منها. رضوخ ظاهري وينتهي الأمر برضوخ الأم ظاهريا للإغراء المادي ولكن الفضيحة مع ذلك تتفجر ويقبض علي الحفيد ويساق مخفورا إلي التحقيق. وتسارع العجوز لإبلاغ ابنتها بالقدوم إليها ولكن قبل وصول هذه الابنة تكتشف العجوز معني الشعر الحقيقي وارتباطه بالموت والعذاب البشري وقلق القلب وشكواه فتقرر في محاولة غريبة تبدو ظاهريا وكأنها غير مفهومة ولكنها في الواقع نتيجة مباشرة ومنطقية لما عاشته هذه العجوز من تحولات عاطفية وإنسانية في هذه الأيام الأخيرة يبدو لها وهي تنظر إلي مياه النهر الهادئة التي تناديها .. إنها قد تقمصت روح هذه الطالبة ابنة الخمسة عشر ربيعا وفهمت تماما الباعث القوي الذي دفعها لأن تلقي بنفسها في طيات الموج. توافق الروايات وهكذا تتوافق الروايتان ويشهد النهر الهادئ موت هذه العجوز التي اكتشفت معني العذاب وأطلقت شيطان الشعر من قلبها تماما كهذه المراهقة الصغيرة التي وضعت بشكل عفوي حدا لحياتها هربا من واقع لا تستسيغه ولا ينسجم مع رغبات قلبها وجسدها. وينتهي هذا الفيلم البديع بأستاذ الشعر يلقي علي طلابه القصيدة التي كتبتها العجوز قبل أن ترحل .. ووضعت فيها قطرات الدم التي تسيل من قلبها وحولت حياتها كلها إلي موت شاعري إرادي هو بالنسبة لها نقطة الختام لتساؤلات طرحتها عليها الدنيا ولم تستطع هي معرفة إجابتها. الفيلم يقوم علي سيناريو متين مليء بالتفصيلات الصغيرة الموحية وحوار شديد الذكاء يتناسب مع مواقف مرسومة بدقة شديدة تتجاوز فيها الرقة البالغة بقسوة لا حد لها لتشكل مزيجا هادئا يتسلل إلي القلب والنفس ويدفعنا إلي التفكير العميق فيما نحن فيه .. والحياة التي نحياها والبشر الذين يحيطون بنا. أفهم تماما سر إعجاب لجنة التحكيم في مهرجان «كان» بهذا السيناريو الرائع الذي يختلف في مضمونه وفي اتجاهاته وفي مراميه عن جميع السيناريوهات الأوروبية. إنه يحمل غموض الشرق وشراسته وعذوبته الفائقة .. ويفضح أمامنا بصورة عفوية مدهشة أسرار القلب البشري وتوجهاته .. تاركا لكل متفرج أن يفسر كما يشاء هذه الأحداث المتلاحقة التي يجريها الفيلم أمام عينيه .. واضعا إياه في منتصف تيار هادر يأخذه إلي كل اتجاه دون أن يدرك تماما أين يقع شط الأمان؟. لا مجال للقول بأن أداء الممثلة الأولي التي أدت دور العجوز كان درسا حقيقيا في كيف يمكن لممثلة أن تتقمص دورا وأن تعيشه حتي الثمالة ولا الإشادة بهذا الإيقاع اللاهث والمتوازن الذي سار عليه المخرج في رواية أحداث فيلمه. ولكن ما يبقي رغم ذلك ورغم إجادة الممثلة المذهلة والمخرج الكبير هو هذا السيناريو الفذ الذي يخرج عن المألوف وعن كل ما اعتدناه والذي يذكرنا بأن السينما ما زالت تملك مغارة علي بابها.. وأن من يكتشف «مفتاحها السحري» قادر هو وحده علي التمتع بكنوزها التي لا تنتهي وأن السينما حقا.. رغم المائة عام التي وراءها مازالت قادرة علي أن تقدم لنا الجديد وكل الجديد.