أمام الكوارث الحقيقية التي تقدمها لنا السينما الغنائية المصرية اليوم وأمام هذا السيل المنهمر من التفاهة والبلاهة وعشق الذات والضحالة الموسيقية.. ما كان لعاشق هذه السينما العريقة إلا أن يعود إلي ذكرياته إلي أيام سطوع الشمس الذهبية في سمائها لكي يستعيد شيئا من الثقة ولكي يذكر هؤلاء الذين يحرثون اليوم في الماء .. إن شاطئ النيل قد عرف الورود الزرقاء والفراشات الملونة وصيحات عرائس البحر .. وعاش من خلالها أياما مجيدة قبل أن يصل به الزمان إلي مرحلة الطمي والعفن وجثث البقر المنتفخة والطافية علي سطح الماء. مسار جديد عندما قرر عبدالوهاب أن يقدم فيلمه الغنائي الأول الذي قلب المعايير كلها في السينما المصرية .. ورسم للدراما السينمائية الموسيقية مسارا جديدا مليئا بالأماني .. اختار الدراما الاجتماعية أولا في «الوردة البيضاء» ثم اتجه إلي الأدب العالمي ليقدم بعدها إعدادا شرقيا لقصة «ماجدولين» ل«الفونس كار» تحت اسم «دموع الحب» وإعدادا باسما لتراجيديا شكسبير «روميو وجولييت» تحت اسم «ممنوع الحب» ثم مع اتصال وثيق بالأدب المصري .. يقدم أخيرا مسرحية توفيق الحكيم «رصاصة في القلب» في قالب غنائي وشعري.. أوصل كلمات الحكيم المزركشة إلي أعمق منطقة في ضمير المتفرج المصري العادي. وعندما فكرت أم كلثوم .. أن تدخل ميدان الغناء السينمائي اختارت هي أيضا مواضيع تراثية عن اقطاب الغناء وسيداته في العصور الإسلامية الذهبية لتقدم من خلالها أجمل وأعمق أغانيها، وهكذا جاءت «وداد، وسلامة، ودنانير».. لتعقبها أيضا جرأة غير مسبوقة في تقديم تمصير شديد الذكاء والمعاصرة لأوبرا «عايدة» قام به العبقري القصبجي ثم عودة للأدب هي أيضا من خلال قصة «فاطمة» لمصطفي أمين. لم تفكر أم كلثوم ولم يفكر عبدالوهاب .. في كتابة القصة والإشراف علي السيناريو كي يعطي لشخصياتهما الآسرة الهالة المطلوبة. لم يبصق عبدالوهاب علي معجباته ولم يهزأ بهن ويضربهن بالقلم.. بل اختار أجمل الفتيات ليغني لهن «انس الدنيا» و«بلاش تبوسني في عنيا» وجعل منهن باقة حلوة من الزهور الملونة تحيط به وتعطي لغنائه لونا ساحرا خاصا به. شخصيات غنائية وكذلك فعلت أم كلثوم عندما جسدت المغنية «دنانير» التي كانت سببا من أسباب كثيرة عمقت الخلاف بين هارون الرشيد ووزيره البرمكي. وفي سلامة القس .. أحبت أم كلثوم رجلا متدينا حتي الثمالة وغنت من اشعاره وشفعت له عند الخليفة الأموي. حتي هذه الأغاني التي غناها قطبا الغناء الأكبر في خارطة الموسيقي العربية جاءت علي مستوي غنائهما في طريقة إخراجها وتقديمها. محمد كريم الذي وصل إلي أقصي درجات الجرأة في تقديمه أغاني عبدالوهاب بطريقة مبتكرة مميزة لم يستطع أي مخرج آخر أن يقوم بها مع أي مغن آخر. فهو تارة يغني وهو يستحم في البانيو «المية تروي العطشان» ومرة يغني وهو يستقل عربة ريفية يقودها حصان هربا من المرأة الارستقراطية «الهام حسين» التي أرادت أن تبعده عن حبيبته فهرب منها.. قافزا من الشرفة وعائدا إلي المدينة علي ظهر هذه العربة التي تسير ببطء وهو يغني لها «اجري .. اجري» أو يغني حزينا في المقابر .. بعد أن وأد حبه «أيها الراقدون تحت التراب» وعجز عن الغفران .. أو يغني أمام أسوار حبيبته ليلة زفافها وقصرها يزدان بالأنوار وهو يسير متخبطا في الظلام منشدا «ضحيت غرامي». تحت سفح الهرم غني عبدالوهاب تحت سفح الهرم.. وأمام شاطئ النيل وفي حدائق القناطر.. وفي غابات باريس غني مختبئا وراء جهاز راديو كبير «يللي نويت تشغلني» وغني في بار يوناني «أحبه مهما اشوف منه» وغني في أرض خلاء .. لا روح فيها «لست أدري» وغني في ديكور خرافي لم تر السينما الاستقراطية أجمل وأرقي وأشيك منه «ياورد مين يشتريك» لابسا السموكينج الأبيض .. متقدما فتاة في ثياب قصيرة تحمل سلال الورود، وغني لوحده في صالون خال من الناس وعلي بيانو أسود كبير أغنيته الرائعة «الصبا والجمال» أمام واحدة من أجمل مخلوقات السينما المصرية «إلهام حسين». كان كريم يحاول أن يضع المغني في إطاره السينمائي كمخرج وفي إطاره الثقافي من خلال أعمال تحترم العقل والذكاء وكرامة الإنسان .. لذلك جاءت هذه الأفلام السبعة القليلة التي مثلها «عبدالوهاب» تحفا سينمائية حقيقية رفعت السينما المصرية الغنائية إلي عرشها الذهبي الكبير.. والتي ظلت متربعة عليها سنين طويلة .. قبل أن تنزلها عند هذه الأفلام التافهة لمغنين لا يعرفون للغناء معني ولا للأدب السينمائي وجودا. وإذا كان لكريم حق السبق في إخراج أغاني عبدالوهاب بهذه الطريقة المدهشة التي لم يجاره فيها أحد .. فقد كان لأحمد بدرخان فضل كبير أيضا في إعطاء أفلام أم كلثوم.. طابعا خاصا بها.. يليق بشخصيتها الارستقراطية ويتلاءم مع طريقة غنائها الفريدة. منذ أن كان بدرخان المساعد الأول لفريتز كرامب الألماني الذي أخرج لأم كلثوم أول أفلامها «وداد» شعرت مطربة الأجيال أن بدرخان هو المخرج الذي يجب أن تتمسك به حتي الثمالة، تماما كما تمسكت بملحنيها الكبار «زكريا أحمد، والقصبجي، والسنباطي» لذلك عهدت إليه فورا بإخراج فيلمها الثاني «نشيد الأمل» الذي قدمها بأغان لا تنسي أغنية الهدهدة الخارقة للعادة «نامي يا ملاكي» وأغنية «المجد» وجعلها تطير فرحا وهي تنشد «افرح يا قلبي» أو تسقط صريعة الشجن في «أفديك بروحي». الغناء أمام الرشيد ولكن بدرخان لم يتألق سينمائيا مع أم كلثوم كما تألق بفيلم «دنانير» فجعلها تغني أمام الرشيد في جوقة موسيقية مكونة من الجواري أجمل أغانيها «قولي لطيفك ينثني» وجعلها تغني في قصور البرامكة التي هدها الرشيد «رحلت ساجعات الطيور» وعلي أمواج دجلة غنت في زورق مزدان بالورود والشموع «ياليلة العيد». وفي «عايدة» حولها بدرخان إلي أميرة حبشية تموت حبا مع قائدها المصري وتغني مع جامعات ثمرة القطن في ريف مصر، وتغني مع زميلاتها في عنبر نوم «الجامعيات» وتغني الدويتو الوحيد لها مع «إبراهيم حمودة» علي عربة حنطور تخترق بها حقول مصر الخضراء . وفي «فاطمة» غنت للنيل مع «أنور وجدي» وغنت ل «السيدة زينب»، وغنت للورود والطيور والأزهار وفي كل مرة كان الغناء يصاحب الفن السينمائي الارستقراطي ويعلو به إلي مقامات شامخة لا تعرف بعدها إلي من ندين بتشوقنا إلي الغناء أم إلي الطريقة التي يقدم بها الغناء أم إلي هذا الاحترام الذي تقدمه السينما الغنائية لمتفرجيها وعشاقها. لا أريد أن أعطف بدوري علي أفلام «الأطرش» و«محمد فوزي».. و«عبدالحليم» من خلال رؤية «حسين كمال» الشديدة لأني أكتفي بذكر هذين الهرمين الغنائيين اللذين لم يكونا ليحتاجا إلي أي زخرفة أو زركشة كي يجعلا الناس تتقاطر ألوفا وملايين لتراهم مجسدين علي الشاشة.. ومع ذلك حافظا هذان الهرمان.. علي مستواهما الغنائي بأن جعلاه متوازيا مع مستواهما السينمائي الذي ظهرا به. فقدما بذلك درسا لا ينسي لكل هؤلاء الذين دخلوا بعد ذلك تباعا إلي حقل السينما.. كيف يجب أن يكون الغناء السينمائي وما الهالة التي علي المغني الكبير أن يحافظ عليها إذا أراد أن يمنح لنفسه احترام معجبيه وعشاقه. سخافة وإسفاف عكس هذا الطريق تماما يتبعه نجوم غنائنا الجدد.. ليؤكدون بكل صفاقة أهميتهم وحظوتهم لدي جماهيرهم.. التي علينا أن نقبلهم مهما فعلوا ومهما انحرفوا ومهما ابتذلوا. لا عناية مطلقا بالنظر السينمائي الذي يؤدونه سيطرة كاملة علي المخرج المسكين الذي يوقعه حظه العاثر باحترام فيلمهم لا مبالاة.. بما سيقوله الجمهور عنهم ما داموا قد استقطبوه منذ زمن وسجنوه في قفصهم المتهالك ولا يتركون له إلا فرصة التصفيق والتهليل لهم ولما يؤدونه والطريقة التي يختارونها هم أنفسهم لهذه التأدية. وهكذا سقطت سينمانا الغنائية المدهشة التي كانت فخرنا ومجدنا خلال الثلاثينات وحتي الستينات التي استطاعت أن تقف وقفة التحدي أمام السينما الارستقراطية الهوليوودية والسينما الهندية الراقصة والتي باتت اليوم تلملم شتات أمجادها وتعيش علي اصداء ذكرياتها القديمة. كما استطاع عبدالوهاب وأم كلثوم أن يخلقا في تاريخ السينما المصرية .. هما وفئة المطربين الكبار الذين جاءوا بعدهما معالم أسلوب سينمائي غنائي مصري خاص لا يمكن تقليده وتحول ليكون الآن «ماركة مسجلة» تحسب لهم طويلا، فإن مغنينا الجدد نجحوا هم أيضا في هدم حجر وراء حجر ولبنة وراء لبنة لهذا الهرم الفني الكبير الذي شيده أساتذتهم ووقفوا الآن «يرقصون ويغنون» علي أطلاله.. دون أن يدركوا لحظة واحدة أنهم يغنون للفراغ وأن الصدي نفسه أصبح عاجزا عن ترداد ما يقولونه.