"ما قيمة الحياة بعد موت من نحب؟" "وما قيمتها إن تركنا من نحب من حياتنا إلى حياته؟" "ولم يتركونا في دنيا تضيق بنا وعلينا بعدهم؟" اسئلة تلاحقني وألاحقها منذ سنوات لا أتذكر عددها تحديدا، لكنني توقفت عندها عندما أدركت أن الموت لا يأتي لمن عاش طويلا أو لمن مَرِض كثيرا بل يأتي أحيانا أو كثيرا ليأخذ أنبل وأشرف من فينا وعندما اكتشفت أيضا أن الرحيل والفراق ليسوا بالموت وحده بل من النبلاء من قرروا – كعادتهم – أن يعيشوا نبلاء ليموتوا نبلاء فاعتزلونا وهم أحياء طواعية وترفعا وفرارا من نهر جنوننا. بعدهم تستمر الحياة أو نظنها كذلك لكنها حياة تفقد كل معانيها، تفقد نسائمها الجميلة وأرواحها الطيبة التي تضمك في أقسى اللحظات وترشدك في أحلك الأزمات… تستمر الحياة…وتمر الأيام…وتجري اللحظات…ويبقى من تتساوى بهم وبدونهم الدنيا…. ومن بعدهم يظل السؤال بلا إجابة "لماذا يرحل النبلاء؟" مات عبد الوهاب المسيري وأنيس منصور وسلامة أحمد سلامة ورحل عماد عفت ومحمد يسري سلامة… وانسحب يسري فودة وريم ماجد ووائل غنيم وهبة رؤوف عزت… ويتراجع المخزنجي ويتوقف أيمن الصياد ويترفع عزالدين شكري… ومن بعدهم تطادرنا علامة استفهام كبيرة "؟" لماذا ينسحب الباحثون عن الحق والمعرفة والحكمة ويستمر المضللون والجهلاء والأغبياء والمزايدون الزارعون للشجر الخبيث في أرضنا؟ لماذا يحكمنا ويتحكم فينا من لا يخافونه فينا ولا يرحمونا من المتكالبين على الأضواء وعلى غنائم الشهرة ومن المنتفعين ومن المكارثيين؟ لما يُقتل الأنقياء الأبرياء والشرفاء ويستمر الخائنون والمتاجرون بكل شئ وبأي شئ مهما كان؟ بدأت المقدمات التي أدت إلى هذه النهايات مع ثورة 25 يناير " ثورة العيش والحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية"، حينما اقتحمت السياسة حياتنا وفتحنا لها الأبواب على مصراعيها لا لتأخذ حيزها المناسب بل لتستولي على مساحات الأخلاق والضمير والتعايش ولتهز بداخل عدد كبير منا ثوابت "العيش والحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية"... اجتمعنا على الحرية والكرامة الإنسانية للقضاء على الاستبداد ثم أطلقنا مارد المستبد الذي بداخلنا فأحللنا الاستبداد السياسي الحاكم بآخر أخلاقي شعبي... فلا يختلف معك مُختلف إلا وينال نصيبه من الإهانة والتخوين والسباب ونشر شائعات وأكاذيب لفضحه والنيل من عرضه بل وعرض أهل بيته وأحيانا الدعاء عليه وعلى أهل بيته...لم نترك قيد أنملة لحرية الرأي أو المعتقد أو حتى حرية المظهر التي صارت نوع جديد وحتمي للتصنيف ثم للعقاب... وبمرور الوقت تحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى مواقع تناحر واقتتال واحتراب اجتماعي... وصارت النوايا التي لا يعلمها إلا الله دائما كالمتهم في القفص...وصار الحديث "باسم الله" سلاح على رقاب المخالفين لنا... وحتى وقت قريب كان عندي أمل وكنت أتخيل أو بالأدق كنت أحاول "تخدير" نفسي أن رحيل للنبلاء مؤقت وما هو إلا "منع بعده منح" وأنه عما قريب جدا سيُخرج الله من بيننا ومننا أفضل وأروع من فينا وما فينا فنحن لا نحتاج سوى فرصة… لكنني لم أكن أتوقع وأنا اقرأ تقريبا كل يومين مقال "أستاذي النبيل" أيمن الصياد "ماذا جرى للمصريين؟" أن هذه العبارة من المقال ستتحول من مجرد تشخيص حال إلى واقع ومنه إلى نتيجة ونهاية تكاد تكون حتمية أو مفتوحة لحبات "عقد النبلاء" الذي انفرط أو بالأحرى "الذي فرطناه"… "ابتعد أو اختفى، إحباطا أو يأسًا أو رغبة في الاحتفاظ بعقولهم سليمة وسط هذا الجنون بعضُ من كانوا قد نجحوا، بدرجة أو بأخرى في الوقوف بعيدا عن استقطاب تسلل كالأفعى إلى كل ركن وخطاب" (ماذا جرى للمصريين؟ – الشروق – 21 يوليو 2013) حتى جاء "الرقيق النبيل" الدكتور محمد المخزنجي طالبا "استئذان فى الانصراف" ليؤكد قولا وعملا أن ما كتبه "أستاذي النبيل" لم يكن تشخيص وقتي بل تشخيص طويل المدى أو بالأدق "نتيجة" ف"الفرسان ترحل وتمتنع"… " على مستواى الشخصى، أرى أن دورى فى الحياة الآن، سيخرج عن سياقه الصميم إن استمر يقارع خصوم السياسة فى هذه اللحظة الملتبسة التى يتمترس كل فرد فيها وراء حائط الهياج الجمعى، أو الصياعة الجماعية المُقنَّعة، من غلاة هذا الطرف أوذاك….لكل ما سبق، واستجابة لنداء التغيير الصارخ داخلى، سأتوقف عن كتابة مقالى فى «الشروق» ….." (19 سبتمبر 2013 – الشروق) وبعد أربع أيام ومن نفس الصفحة ومن نفس المكان ومن ضمير يحمل نفس صفات النبل والرقة، تجد اعتذار آخر عن الكتابة من الأستاذ أيمن الصياد ليعلن بعدها بأسبوع من نفس الصفحة ومن نفس المكان ومن ضمير تجرع مرارة اللامنطق أنه لم يسلم هو نفسه من عدوى أوشكت أن تنال من الجميع " بعد إحباط كان أن أصابتنى عدواه جراء ما غاب عن المنطق فى ردود فعل صادمة «ومتجاوزة» على ما اجتهدت به هنا فى «البحث عن المشترك » " ( المستقبل الآن – الشروق – الأحد 29سبتمبر 2013) حتى وإن عادوا، وبالفعل عادوا….لأن نبلهم أقوى من جنوننا… سيظل الجرح الأول موجود… وستبقى آثار الهزة محفورة يعلم قسوتها فقط "من كان له قلب"… حتى وإن عادوا، وبالفعل عادوا… لأن نبلهم أقوى من جنوننا… فقد يُولد من الشرخ شروخ أخرى…إن استمرت نتائج المقدمات التي أصبحت كالنهايات الدرامية المفتوحة لا نعلم منها من المنتصر( النبل أم الجنون؟)…فالكل يتخيل نهاية تليق بمحبيه وتنال من مخالفيه… حتى وإن وعادوا، وبالفعل عادوا… لأن نبلهم أقوى من جنوننا… فلنعلم أن من توقفوا مرة "إحباطا أو يأسًا أو رغبة في الاحتفاظ بعقولهم سليمة وسط هذا الجنون" لن يترددوا في الرحيل إلى الأبد ليعيشوا نبلاء وليموتوا نبلاء…