فعندما تطأ قدماك المكان لا يستطيع أي إنسان تحمل رائحة المكان، وعندما تتوغل أكثر داخل المكان تجد المئات من المدابغ الصغيرة التي لا يزيد عدد العاملين فيها على 5 عمال في كل مدبغة وأحيانا أقل وإلى جوارها المدابغ ذات الطابع التكنولوجي الضخم متعددة الأدوار والتي تعج بالعاملين. وأثناء جولتنا داخل المكان اتهم الكثير من أصحاب مدابغ الجلود الصغيرة أصحاب المدابغ الكبرى بأنهم أصحاب المصلحة الوحيدة لنقل النشاط من مصر القديمة لمنطقة «الروبيكي» في مدينة بدر، وذلك لتوسيع استثماراتهم وتجارتهم على حساب «الغلابة» من العاملين بالمهنة. وقال عدد منهم ل«البوابة» إن الانتقال للموقع الجديد سيؤثر بالسلب على أغلب العاملين والفنيين الصغار، وذلك لبعد المنطقة الجديدة عن أماكن سكنهم وارتفاع تكلفة انتقالهم اليومي، فضلًا عن تشريد وغلق الكثير من المدابغ الصغيرة لعدم قدرتها على مواكبة تكنولوجيا المدابغ الكبيرة المنتظر إنشاؤها في الروبيكي. وقال عبدالمولى فوزي، صاحب مدبغة صغيرة، والذي يعمل في المهنة منذ 70 عامًا، إن عملية نقل نشاطهم للروبيكي في مدينة بدر هو أمر يصعب تحقيقه، وسيؤثر بالسلب عليه وعلى جميع أصحاب المدابغ الصغيرة أمثاله والذين يمثلون أغلبية أصحاب المهنة بسور مجرى العيون. وأضاف عبدالمولى أن عدد المدابغ الرسمية يبلغ نحو 300 مدبغة بالإضافة للمدابغ غير الرسمية وتعمل بدون أوراق ضريبية وتأمينات، وأكد صاحب المدبغة أن عدد العمال في مدبغته نحو 5 عمال يسكنون جميعًا بمنطقة مصر القديمة الملاصقة لأماكن عملهم، وفى حالة انتقالهم للروبيكي ستكون الأمور صعبة للغاية، حيث صعوبة المواصلات وتكلفة الانتقال مما سيضطرهم لترك العمل وارتفاع نسبة البطالة. واستطرد صاحب المدبغة قائلًا إن المبانى في الروبيكي مكونة من دور واحد لكل صاحب مدبغة، وهو الأمر الذي يتنافى مع طبيعة نشاط المدابغ الذي يعتمد على أدوار متعددة لتشمل جميع مراحل العمل والذي يحتاج إلى الفصل بين المساحات في كل مرحلة من المراحل. داخل المدابغ وجدنا رجلًا عجوزًا يجلس على كرسى أمام إحدى الورش، تحمل قسمات وجهه الكثير مما يعانيه من هم وقلة حيلة و«غلب»، هو عم حسن جابر، ذو ال92 عامًا، والذي يعد من أقدم العاملين في هذه المهنة، دعانا للجلوس بجواره، سألناه عن رأيه في الانتقال للروبيكى فتحولت ملامح وجهة الساكنة إلى ملامح يستشيط منها الغضب، واتهم أصحاب المدابغ الكبيرة «الرأسماليين الكبار»، كما يسميهم، باللهث وراء انتقال النشاط من مصر القديمة للروبيكى، بما يعود عليهم بالنفع وزيادة مصالحهم واستثماراتهم «ومش مهم رزق الغلابة اللى زينا إنه ينقطع». وقال عم حسن «أنا مش هتنقل لأى مكان واللى هيقرب ناحية أكل عيشى وشوية البراميل والماكينات القديمة اللى بمشى بها حالى هموته، ما إحنا كدة كدة ميتين»، وأضاف: «الحكومات المتتالية على مصر لم تحترم حق المواطن الغلبان البسيط، ودائما ما كانت ولاتزال (تيجي) على الغلبان وتسيب الحيتان هما اللى يخدوا كل شىء». وأكد عم حسن أن العامل البسيط في المدابغ يعمل لأكثر من 20 ساعة ولا تزيد يوميته على 50 جنيهًا «وأصحاب المدابغ الكبار بيحلبوا العامل ويهدوا صحته في الشغل ومش مهم أي حاجة تانية». ولفت العجوز إلى أنه يضطر للعمل في جلود الجمال رغم ضعف الطلب عليها، لأنه على «قد مقدرتي»، حسب قوله، فقطعة الجلد تصل في الجملى إلى 60 جنيهًا بينما يصل سعر قطعة الجلد البقرى من 280 إلى 400 جنيه وهى أسعار لا يمكنه تحملها. والتقط طرف الحديث أحد سماسرة الجلود الخام بالمنطقة، ويدعى كمال محمد صالح، والذي أكد أن انتقال نشاط المدابغ للروبيكى سيفقد 75٪ من عمال المدابغ عملهم، خاصة العمال الصغار، وجميع الأنشطة المرتبطة بهذا العمل، مثل العربجية والعمالة اليدوية والمقاهى والمطاعم التي تخدم عمال وأهالي سور مجرى العيون، وذلك بعد إحلال الميكنة والآلات. وقال كمال إن أغلب أصحاب المدابغ لا يقومون بعمل تأمينات إلا على عدد محدود من عمالهم، بينما «الأرزقية» الذين يعملون لساعات طويلة متواصلة، والقائمون الفعليون على الصناعة مهددين بالتشريد ودائمًا ما تتم التضحية بهم. واستطرد كمال قائلا إن سوء الأحوال الاقتصادية للعاملين بالمدابغ وضعف دخولهم تسببا في قيام الكثير منهم بالتحول لتجارة المخدرات داخل المنطقة، في محاولة منهم لتحسين ظروفهم المادية والإنفاق على أسرهم. أحد أصحاب المدابغ المتوسطة ويدعى إبراهيم محمود اتهم بوضوح شديد أصحاب رءوس الأموال والمستثمرين الكبار من أصحاب المدابغ بالسعي وراء نقل النشاط، لقدرتهم على الإيفاء بمتطلبات العمل بالمنطقة الجديدة دون أي اهتمام بمصير صغار العاملين بهذا النشاط، ولم يخف إبراهيم ميزة واحدة يراها، من وجهة نظره، في عملية نقل النشاط للروبيكي وهى تطور الإنتاج النهائى للصناعة، والذي سيعود بالعائد المالى الأفضل للدولة ولأصحاب المدابغ القادرين على مواكبة التطور التكنولوجي في الصناعة. في الوقت نفسه اقترح إبراهيم إنشاء مجمع كامل للماكينات التي تدار بها هذه الصناعة، ويتم تأجيرها في الموقع الجديد لأصحاب المدابغ الصغيرة مقابل دفع تكلفة القطعة الواحدة حتى لا يتعرضوا للتشريد لعدم قدرتهم على شراء هذه الماكينات ومواكبة تكنولوجيا الصناعة. بينما كنا نمضي في طريقنا بين المدابغ واجهتنا مدبغة ضخمة متعددة الأدوار، دعانا أصحابها للصعود للحديث معهم، لمعرفة وجهة نظرهم في موضوع انتقال نشاطهم للروبيكي، قال صاحبها، طه إسماعيل، إنه رغم قيامه بشراء مساحة له بالروبيكي للانتقال إليها في حالة انتقال نشاطهم إلى هناك إلا أنه أكد أن بعد المسافة سيؤدي إلى ترك الكثير من العاملين لديه العمل، خاصة غير المؤمن عليهم، بسبب عدم توافر وحدات سكنية لهم هناك، والتي تشترط حصول العامل المؤمن عليه على وحدة سكنية في مشروع الوحدات السكنية المزمع إنشاؤه هناك لخدمة العاملين بالمشروع، لافتًا إلى أنه يتحمل تكاليف تأمين على نحو 15 عاملًا يعملون معه في المدبغة تصل إلى 20 ألف جنيه سنويًا، إضافة إلى باقى التزاماته المادية الأخرى مما يصعب معه قيامه بالتأمين على 15 عاملًا آخر يعملون معه دون تأمين، الأمر الذي سيتسبب «في خراب بيوت ناس كتير»، على حد تعبيره. من جانبه أكد محمد حربي، رئيس شعبة الدباغة، وأحد كبار العاملين في هذه الصناعة، أن مشروع نقل المدابغ للروبيكي بالكامل يحتاج ل2 مليار جنيه و3 سنوات تقريبًا للانتهاء منه، وقال إنه تم صرف مليار جنيه حتى الآن على أعمال البنية التحتية، والانتهاء من نحو 12٪ من الإنشاءات، مضيفًا أن المتبقي في المشروع إنشاء المنشآت الصناعية والبنية التحتية للمرحلتين الثانية والثالثة. وأشار حربى إلى أن ال2 مليار جنيه تضم 184 مليون جنيه لإنشاء وحدات سكنية للعاملين بالمشروع، المسجلين بشكل رسمي ولهم بطاقات ضريبية وتأمينية. وقال حربي إن عدد العاملين بالمهنة يصل إلى نحو 75 ألف عامل، واعترف رئيس شعبة الدباغة بأن أكبر مشاكل المهنة يكمن في ارتفاع أسعار شراء الجلود الخام بسبب مدبغة قويسنا بالمنطقة الحرة، التي تضارب بأسعار الجلود، مما يزيد من الضغوط المالية على أصحاب المدابغ بالقاهرة، خاصة أننا مطالبون بتقديم فواتير للضرائب، في الوقت الذي تعفى فيه هذه المدبغة من الضرائب، مطالبًا بضرورة وجود قيود أو رقابة ما على هذه المدبغة حتى لا تؤثر على أعمال المدابغ بالقاهرة. وأكد حربى أن وزارة الصناعة كلفت شركة «ميجا كوم» بعمل دراسة كاملة لدراسة ما يحتاجه مشروع نقل المدابغ لمنطقة الروبيكي، حتى تحدد ما يتطلبه المشروع للانتهاء منه نهائيًا، والذي ستعد أول مدينة صناعية متخصصة في الشرق الأوسط في قطاع الدباغة، لافتًا إلى أن قطاع الدباغة حقق أعلى طفرة تصدير بنسبة 42٪ مقارنة بكافة الصناعات الأخرى عام 2013. وقال رئيس الشعبة إن القطاع ليس عبئًا على الحكومة، وبالتالى على الحكومة توفير مراكز تكنولوجية داخل المنطقة الجديدة لأصحاب المدابغ الصغيرة. ومن جانبه أكد اللواء ياسين طاهر، نائب محافظ القاهرة للمنطقة الجنوبية، التابع لها منطقة سور مجرى العيون، أن الانتهاء من المرحلة الأولى فقط من نقل المدابغ لمشروع الروبيكى يتطلب نصف مليار جنيه لتشغيل المشروع، خاصة أنه سيتم تجهيزه بكافة المرافق (كهرباء وماء وصرف صحي) وغيرها من الخدمات لخدمة المنطقة بالكامل، خاصة وأن الهدف انتقال العاملين بالمدابغ للعيش بمساكن مجاورة للمنطقة وتجهيز خطوط نقل ومواصلات لخدمة المنطقة بالكامل. وأكد طاهر أن مجلس الوزراء مازال يبحث الموضوع، ويحاول البحث عن سبل لتمويل المشروع لبدء عملية النقل. بينما نفى المهندس أحمد أبوالسعود، رئيس جهاز شئون البيئة، مسئولية الوزارة عن نشاط المدابغ، وأكد أن المسئولية تقع على محافظة القاهرة ووزارة الصناعة، لافتًا إلى أن الملوثات التي تسببها هذه الصناعة هي ملوثات الصباغة، والتي تتسرب في شبكة الصرف الصحى، وهى لا تقل خطورة عن أي ملوثات أخرى. ودعا رئيس الجهاز إلى ضرورة الانتهاء من عملية نقل المدابغ حتى لا تضيع قيمة الاستثمارات الضخمة من المعونة الإيطالية التي وضعت في الموقع الجديد هباء. وأكد الدكتور طه عبدالحميد عوض، أستاذ أمراض الصدر والحساسية بطب الأزهر، أن تعامل العاملين مع الجلود الحية للحيوانات، وما يحدث لها من تحلل للأنسجة ينتج عنها بكتيريا تؤدى لصدور روائح كريهة خانقة، وكذلك الفطريات التي تخرج من هذه الجلود تتركز جميعها في أظافر العاملين، وجميعها تسبب التهابات شعبية ورئوية مزمنة، لافتًا إلى أن استخدام المواد الكيماوية الحارقة يؤدى لتهيج في أنسجة جلد العاملين وتهيج في الشعب الهوائية وربو شعبي وسل رئوي.