ما الذي يمكن أن يستدعيه الاطلاع على الأجندة القطرية في الوقت الحاضر؟ ذلك أن هذه الأجندة تزدحم بوقائع وأحداث لافتة في تداعياتها ومفارقاتها، بدءًا من مخايلتها النظام الحاكم في مصر بتقديم ودائع واستثمارات اقتصادية له، مرورًا بالاستمرار في تقديم الدعم اللوجستي لمعارضي النظام السوري بهدف إسقاطه؛ كمحاولة لإحداث ثغرة في التحالف بين إيران وسوريا وحزب الله، لحساب السعودية والولاياتالمتحدة وإسرائيل، إضافة إلى المعارضة مع القوى الإسلامية في شمال مالي، والتوسع في تقديم مادة إعلامية بصرية للمشاهدين في الولاياتالمتحدة، ومساعدة متمردي إريتريا، وإن جاء القول إنه، وبخلاف هذه الوقائع الجلية، فإن الأجندة القطرية لا بد أن تحوي وقائع أخرى خفية. والأمر حول هذه الوقائع، على أية حال، يتعلق بتكريس التطلعات التي انتهجتها الأسرة الحاكمة في قطر منذ انقلاب سنة 1995، وهي تطلعات غذّتها هواجس الوقوف أمام قوى إقليمية ثلاث: إيرانوالعراق والسعودية، وامتلاك خطر لواحد من أكبر الصناديق المالية في العالم، واستنادها إلى دعم خارجي، قوامه الارتباط بالمصالح الأمريكية كما حددتها الاتفاقية بين الولاياتالمتحدةوقطر، والتجاذب مع الدولة العبرية بافتتاح مكتب تجاري لها في الدوحة، وإن أشير إلى عدم إغفال مطالبة الشيخ يوسف القرضاوي لأمير البلاد حمد بن خليفة آل ثان، أن يغسل يديه من مصافحة شيمون بيريز، المتردد بانتظام على الدوحة. قبلها، كانت قطر تعيش حالة من الدفاع عن شرعيتها، بأنها لم تكن جزءًا من البحرين كما تحدثت المزاعم البريطانية، واضطرار القبائل القطرية إلى دفع الزكاة لسلطة نجد الوهابية، وموافقة القانون الدولي على نقل ملكية جزر “,”حوار“,” إلى البحرين، وكانت مثارًا للنزاع بين البلدين، مع تفاقم مشكلة الحدود مع السعودية. وقد أدت هذه النزاعات إلى اضطراب العلاقات القطرية مع السعودية والبحرين، وهو اضطراب عبّر عن نفسه غير مرّة في شكل أزمات متواصلة، تنامى بفعل المتغيرات الدولية والإقليمية العاصفة، فكان انقلاب 1995، لتبدأ قطر بعده بانتهاج سياسة جديدة، مثّل التفرد والانشقاق، والاستعلاء علاماتها المائزة. والأمر هنا يتعلق بتوجهات إستراتيجية وسياسية وداخلية جديدة، مثلت خروجًا على المواصفات الخليجية والإقليمية والعربية الحالّة: فعلى المستوى الإستراتيجي، تم التأكيد على دور أمريكي قطري، يستهدف ترويض الاختراق الإقليمي القائم منذ عقود باسم الإسلام، بالوكالة عن الولاياتالمتحدة. وطبيعي أن تستوجب هذه الشراكة مع الولاياتالمتحدة توريط قطر في التزامات حول النزاعات والحروب والأزمات الإقليمية، التي تخوضها أمريكا لحسابتها الخاصة، وهو ما اتضح من الدعم اللوجستي اللامحدود، الذي قدمته قطر في الحرب العدوانية على العراق. وقد ألزمت هذه الشراكة قطر بالموافقة على إنشاء قاعدتي العيدي والسيليه الأمريكيتين على أراضيها، مع الإشارة بأن قاعدة العيدية تعدّ قاعدة أمريكية مستقلة، لا تخضع -بحسب اتفاق الجانبين- للسيطرة أو السيادة القطرية عليها، بل ونص على مساهمة قطر في تطوير هاتين القاعدتين؛ حتى تكونا قادرتين على استضافة الطائرات الأمريكية الثقيلة والقاذفات الإستراتيجية، وكذلك المساهمة في تكاليف إقامة وإعاشة الجنود والقوات الأمريكية. وعلى المستوى السياسي، عمدت قطر إلى اختراق كافة الأطر والهياكل التي حكمت واقع العلاقات السياسية العربية، بما فيها مواثيق جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي، وكرست سياستها على أن تكون همزة الوصل بين القوى الإسلامية والأنظمة العربية، وهو ما اتضح جليًّا في قضية الصومال، ومسألة دارفور، والمصالحة بين حركتي فتح وحماس، والتوسط بين القوى المتنازعة في اليمن، ومشاركة حلف الناتو في إسقاط نظام القذافي بليبيا، وإن لم تؤد جهودها في هذا الصدد إلى نتائج ملموسة، ناهينا عن محاولاتها الدائبة في إيصال الدول العربية إلى قناعة أن تسلك طريق دبلوماسية التوسل، بغية اجتذاب تجاوب الكفيل الأمريكي مع الأماني العربية في قضية فلسطين وغيرها. وعلى مستوى الداخل، رسمت معالم التجربة القطرية طفرة اقتصادية هائلة، جعلت من دخل الفرد هناك أعلى معدل في العالم، وأسرة حاكمة قايضت هذا الدخل بشرعية الرضا من قبل المحكومين، وإن جاز النظر إلى هذه الشرعية بحذر، مع تحول المجتمع القطري عن عباءته القبلية، وتسرب التوجهات الليبرالية الطارئة، مع مجلس للشورى، ودستور جديد، وانتخابات بلدية، وتطور لأوضاع المرأة، وكلها ممارسات جاءت كمنحة من الحاكم، ولا ترتكز على رصيد تاريخي، يقابلها تزايد غلاة النهج السلفي، واحتكار النخبة الحاكمة للسياسة والثروة، وضيقها في أحيان بمعارضيها، وهو ما حدث حين تولت إلغاء جنسية عشيرة آل غفران القطرية، أو احتجاز المعارض الكبير عبد الرحمن بن عمير النعيمي لمدة ثلاث سنوات من دون محاكمة، وذلك خلال التحضير للدستور والاستفتاء عليه (1999-2002)، ومؤخرًا الحكم بالسجن المؤبد على أحد الشعراء المعارضين، وكلها ممارسات تشهق في وجه المستشار حسام الغرياني، الذي صرح خلال زيارة له إلى الدوحة أن قطر هي البلد الوحيد في العالم الذي لا توجد فيه قضايا تتعلق بحقوق الإنسان. وعلى ذكر الخدمات التعليمية في قطر، ذكر لي الباحث العراقي دارم البُصام، يومًا، أنه توجه سنة 2002 إلى هناك من قبل إحدى المنظمات الدولية، وكان يعمل بها، لدراسة السياسة التعليمية وتقييمها، ففوجئ بوجود مدرس لكل خمسة تلاميذ قطريين، بينما المعدل الأمريكي هو مدرس لكل ثلاثة عشر تلميذًا أمريكيًّا؛ ما يعني -بهذه الكيفية- أن مستوى التعليم في قطر، طبقًا لهذا المؤشر، أعلى منه في الولاياتالمتحدة، وهوما أوقعه في حيرة! وقد حدَت هذه المتغيرات بالمسئولين القطريين إلى التفكير في تأسيس منبر إعلامي، يتولى التعبير عن هذه المتغيرات وترويجها، فكان إنشاء قناة الجزيرة في أبريل 1996، وإن تردد أيامها أنها بدأت كمشروع بريطاني سعودي أمريكي في لندن، كان سعد الدين إبراهيم أحد شهوده، وراهنًا، تتولى هذه القناة دور الفاعل المحرض في القتال الدائر بسوريا، وتنتهج أسلوبًا “,”حربيًّا“,” من التجييش والتعبئة، بذريعة الدفاع عن الديمقراطية في هذا البلد العربي! وفي المجمل، يظل السؤال ماثلاً: “,”إمبريالية“,” قطرية هي، أم تراه الثأر القطري القديم يعاود إنتاجه هذه المرة، في التيسير لنمط جديد من استباحة المنطقة؟