تحولت "داعش" من مجرد اسم يثير الذعر عندما يسمعه اللبنانيون في نشرات الأخبار وهي تقتحم الموصل ثاني كبرى مدن العراق ، إلى خطر حقيقي يدق بعنف أبواب لبنان وسيطر على اكبر بلداتها من حيث المساحة عرسال التي تشكل 5% من مساحة البلاد وتضم نحو 35 ألف نسمة. واكتشف اللبنانيون فجأة أن خطر داعش التي دمرت الحياة في بلاد الرافدين ، يهدد أمن بلادهم ونمط حياتهم،وتداعوا جميعا للوقوف وراء جيش بلادهم في الوقت الذي أكد قائد هذا الجيش العماد جان قهوجي عقب احتلال داعش والنصرة لعرسال أن الخطر داهم وأكبر ممايتصور البعض. وبعد بضعة أيام من القتال الشرس انسحب أغلب المسلحين من عرسال، وبدأ الجيش اللبناني يدخل البلدة .. ولسان حال اللبنانيين هل زال الخطر الداعشي؟. انسحاب المسلحين جاء لأسباب عديدة ، أبرزها الاستراتيجية التي اتبعها الجيش اللبناني حيث فرض الحصار على المسلحين المتحصنين داخل البلدة ، وعمل على قصف مواقعهم وإفشال هجماتهم ، وقضم المناطق التي يسيطرون عليها وقطع خطوط إمدادهم. ولكن هناك عامل هام ساهم في انسحاب المسلحين ، هو الخلافات التي دبت بين مسلحي جبهة النصرة وداعش ، وهي خلافات ليست تكتيكتية او ميدانية ولكنها خلافات في طبيعة وتركيبة وتوجهات .. والأهم أهداف التنظيمين. فجبهة النصرة التي تشكل الفرع الرسمي لتنظيم القاعدة في سوريا ، حصرت هدفها في محاربة النظام السوري وإسقاطه ، وتعاونت مع أغلب المجموعات المسلحة سواء أصولية أو غير اصولية ، بل إن قائدها أبو محمد الجولاني قال إنها لاتريد ان تحكم سوريا وحدها ، ولم تشغل النصرة نفسها بمحاولة فرض المفهوم المتطرف للشريعة الذي تؤمن به مثل هذه الجماعات في المناطق التي سيطرت عليها .. ولذا لم يكن غريبا أن يقول سياسي سوري مسيحي معارض مثل ميشيل كليو إن جبهة النصرة تختلف عن داعش. أما داعش فيبدو أنها التشوه لتنظيم القاعدة المتطرف أصلا بعد أن انتقلت جراثيم أفكاره إلى بلاد الرافدين فتفاعلت مع 30 عاما من ظلم صدام مضافا إليها قهر الاحتلال وطائفية نظام نوري المالكي ، وغياب الدولة ، وأزمة الهوية وإنهيار الخدمات لتخرج للعالم التنظيم الأصولي الأكثر تطرفا على وجه الأرض، والذي بلغ من غلوائه أن التنظيمات المتطرفة الأخرى مثل النصرة والقاعدة وأخواتهما يتبرآن منه ، ويعتبرانه للمفارقة "متطرفا".! واللافت أن داعش خصصت جزءا كبيرا من مجهودها الحربي لقتال فصائل الثورة السورية ومنها النصرة ، وتبخرت بعض هذه الفصائل أمام الهجمات الداعشية الشرسة ، بينما كان صراعها مع النظام السوري في البداية محدودا حتى اتهمها كثيرون أنها صنيعة دمشق لضرب الثورة وليقول للعالم أنا أو داعش. ولكن رغم العداء بين النصرة وداعش ، ورغم أن كثيرا من قيادات القاعدة ومنظريها تهاجم داعش، ورغم أن الخوف منها وازدرائها يسود حتى بين الجماعات الأصولية في سوريا ، لكن نجاحاتها العسكرية وتكتيكاتها جعلت الكثيرمن مسلحي هذه الجماعات ينضمون لها إما كرها أو طوعا إعجابا بقوتها وهيبتها ، وباتت داعش تكسب الأرض ليس فقط بالمعارك والرعب ولكن بشق صفوف منافسيها. وهكذا ظهرت داعش في غوطة دمشق وحماة وأماكن عديدة لم يكن لها وجود من قبل ، وهذاماحدث في لبنان ، حيث كان الوجود الأساسي لجبهة النصرة ، في جرود بلدة عرسال منذ نحو شهر ، ولكن انتصارات داعش في الموصل، شجعت جزء من مسلحي النصرة على الانشقاق بقيادة شخص يدعي أبو الحسن الفلسطيني (قتل خلال الأيام الماضية) والتحول ليصبحون داعش رغم أنهم ظلوا أقل عددا في المنطقة من النصرة. و طرقت داعش على أبواب بلاد الأرز فجأة بعد ان كان أهلها يظنون أنهم بعيدون عنها وأن موطنها الموصل، واللافت أن النصرة بدت أنها تورطت في مغامرة عرسال وحريصة على الخروج منها بأقل تكلفة، وتخشي أن تفتح جبهتين وأن تقع في مصيدة الحصار ونقص الإمدادت خاصة الوقود وكانت هي التي تتفاوض مع هيئة علماء المسلمين مما أدى إلى إندلاع الخلافات بينهما وقيام مسلحي داعش بإطلاق النار على أعضاء النصرة . في المقابل فإن داعش كانت تريد حل الأزمة بمزيد من التصعيد عبر أخذ سكان عرسال كرهائن والاستيلاء على أي المعونات المقدمة لهم ، والتهديد بشن هجمات جديدة بواسطة سيارات مفخخة على الجيش اللبناني بالإضافة إلى فتح جبهات داخلية في مناطق التوتر السني في لبنان ومخيمات النازحين السوريين والفلسطينيين. ولكن مغامرة داعش في عرسال الأخيرة محكوم عليها بالفشل حتى ولو بعد حين ، لأن الوجود الداعشي حتى مضافا للنصرة مجرد جيب يضم 3 آلاف أو 4 آلاف مسلح محاصر من الغرب بالجيش السوري ومن الشرق بالجيش اللبناني ، ليس له خطوط إمداد او تموين إلى القاعدة الداعشية الرئيسية في شمال العراق وشمال شرق سوريا ، ولذا لم يكن غريبا أن يكون أحد طلبات مسلحي داعش بالتحديد فتح طريق آمن إلى حلب ومنها إلى الموصل على أن يلتزم حزب الله بتوفير هذا الطريق مع النظام السوري..كما ان داعش يصعب أن تجد حاضنة اجتماعية بين سنة لبنان وهم كانوا الأكثر انفتاحا والأقل طائفية في لبنان. ولكن خطورة داعش على لبنان لم تنته بالتأكيد، فلبنان هي جزء من بلاد الشام والعراق التي تستهدفها داعش بدولتها المشئومة وخلافتها المزعومة ، بل لبنان هي الحلقة الأضعف بين دول هذا الإقليم ، وإن سقط الإقليم أو أغلبه في يد داعش فإنه لن يكون غريبا أن تستهدف لبنان ، وفي هذه اللحظة سيكون على لبنانيين جميعا أن يتداعوا لمقاومة هذا الخطر الذي يشكل نقيضا للنموذج اللبناني .