"ليست الحياة ما عاشه المرء، بل ما يتذكره وكيف يتذكره كي يرويه"، بهذا صدر ماركيز مذكراته التي جاءت تحت عنوان "عشت لأروي"، ترى ماذا كان يدور في ذهنه خلال نوبات الصحو التي تتخلل فقدان الذاكرة الهائل الذي يسببه داء "الزهايمر" الذي اخترق ذاكرته، وهو الذي ركز في جميع أعماله على استمرار الذاكرة الإنسانية وتيقظ الوعي، وماذا كان ليقول لو كتب عن مشاعره في سجن غياب الذاكرة، وهو الذي نقلت أعماله إلى العالم جزءا كبيرا من ذاكرة طفولة الإنسانية. ولد جابرييل جارسيا ماركيز عام 1927، وكان أبوه جابرييل إيليخيو، عاملا للتلغراف في أراكاتاكا، أحب لويسا سانتياجا ماركيث إجواران، ابنة الكولونيل نيكولاس ريكاردو ماركيث ميخيا، ورفض الكولونيل هذه العلاقة لأن جابرييل إيليخيو ماركيث لم يكن من سكان أراكاتاكا، وكانت أمه عزباء، إضافة إلى اعترافه بكونه زير نساء، ومع نية الكولونيل إبعاد ابنته أرسلت لويسا خارج المدينة، فيما تودد إليها جابرييل إيليخيو بألحان الكمان الغرامية وببعض قصائد الحب، وأخيرا استسلمت عائلة لويسا للأمر، وحصلت لويسا على تصريح بالزواج من غابرييل إيليخيو، في 11 يونيو 1926 في سانتا مارتا. بعد ولادة جابرييل جارسيا بوقت قليل، عمل والده صيدلانيا، وفي يناير 1929، انتقل مع لويسا إلى بارانكويلا، تاركا ابنه في رعاية جديه، وكانت حكايات جديه وذكرياتهما المعين الأول الذي استقى منه ماركيز إبداعه، فتأثره الكبير بجده الكولونيل وحكاياته عن حرب الألف يوم التي شارك فيها في جانب الليبراليين، وذكرى قتله رجلا في مبارزة، إلى جانب ما روته له جدته ترانكيلينا أجواران كوتس التي كان لها إيمان لا يتزعزع بالميتافيزيقا والأرواح والأشباح. عاش ليروي قام أسلوب ماركيز على صياغة العادي وتحويله إلى شكل فانتازي خارج عن المألوف، ومزج الواقع بالسريالي في خليط مدهش يصنع مفاجأة الفانتازي دون الانفصال عن الواقع، كما أن استخدام ماركيز للأسطورة وحكايات جدته حول العوالم الميتافيزيقية منح أعماله نكهة خاصة، تنقل القارئ إلى طفولة الإنسانية حيث كثير من الأشياء جميل برغم الألم الذي يحمله الواقع. وحافظ ماركيز في كتابته على حس واضح من التهكم يكشف زيف ما يعتقد الكثيرون -سواء في رواياته أو في الواقع- أنهم يخدعون به الناس. وكتابة ماركيز تقوم على السرد الذي لا يتخلله الحوار بين الشخصيات إلا نادرا، وهذا السرد يمنح قراءه شعورا بالحميمية في علاقتهم مع النصوص، ويفتح مجالا أوسع لإبداع المتلقي بين قرائه. وفلك الطفولة المستند إلى الثقافة الكولومبية وما نقله له جداه، واختلاط المشاعر والأحاسيس، وقبول الغريب والعجيب بالمقاييس الفلسفية والمنطقية الأوروبية، كان المدار الذي دارت فيه أعمال ماركيز الذي تحرك إلى ما هو أعمق من ذلك بكثير، وبدأ انتقاء ما يلزمه من ذلك الإرث، ومزجه بعناية فائقه في سرده المتخيل، المستمد من الواقع الموضوعي لشعبه ومجتمعه. فبينما غاب الواقع في القصص الأولى، وحضرت الماورائيات عبر مشاعر مضطربة ومتداخلة، نجد الواقع حاضرا بجلاله في القصص اللاحقة، من دون عزله عن الإرث الشعبي بكل مفرداته السحرية، فهنا يحضر الحب والخبز والجنس والقتل والفقر والبؤس والمعاناة البشرية الهائلة، وطقوس الحياة اليومية، والسياسية وقسوة الأنظمة الاستبدادية في أمريكا اللاتينية، وانكسار الأحلام أمام قسوة الواقع، ويتجلى الضعف الإنساني بمختلف جوانبه جنبا إلى جنب مع بروز قوة الحياة وإرادة التحدي لدى الكائن البشري. الحرية والالتزام بقضايا الإنسانية رغم بروز نزعة وميول وجودية في أعمال ماركيز التي كتبها في الخمسينيات، إلا أن تصنيفه ككاتب وجودي ليس صحيحا، كما أن ميوله اليسارية لم تكن تعني أنه ماركسي، فالانتماء الأكبر لماركيز الذي عكسته أعماله كان للإنسانية، ورؤاه تركزت حول ما يعانيه الإنسان فردا/ مجموعا، وما يقف في طريق تحققه وسعادته. وبرغم ارتباط ماركيز بتيار الواقعية السحرية- التي هي بالنسبة له خيار فني وقع عليه في أسلوبه الروائي- يحمل دلالتين تبدوان متناقضتين هما "الواقع، والسحر"، وإبرازه أن الحياة اليومية لأي فرد ليست في مجملها عقلانية، وأن المفاجآت التي لا تحمل تفسيرا يملأ الحياة بالمفارقة وعدم التصديق، إلا أنه انشغل بالقهر والقمع وانتقاد الديكتاتوريات في أمريكا اللاتينية. ونجح ماركيز في التوفيق ببراعة بين انغماسه بمشروع حرية وفرح الإنسان وعوالمه الخاصة من جهة، وبين تقنياته وسحريته ومتطلباته الأدبية من جهة ثانية، فأعطى مثالا لضرورة عدم التخلي عن خصوصية الإبداع ومحدداته من أجل إيصال فكرة ما أو منظمة عقائدية بشكل فج ومباشر. وتناول ماركيز شخصية الديكتاتور في الكثير من أعماله، وأبرز الأعمال التي تعرضت لشخصية الديكتاتور كان "خريف البطريرك"، ولم يقع في فخ الفجاجة أثناء التعامل مع هذه الشخصية، بل غاص داخلها عميقا جدا ليكشف تناقضاتها ولا معقوليتها، وعوامل تشكيل طغيانها، والنهايات السوداوية لهذه الشخصيات. كما أن الثائر في أعمال ماركيز لم يكن ذلك الشخص الذي ضحى من أجل من فكرة أو وطن، إنما كان شخصا كالآخرين، قد ينتظر طويلا أن يصرف له معاش تقاعدي عقب نهاية الحرب، مثلما حدث مع بطل "لا أحد يكاتب الكولونيل"، أو أن تأتي نهايته منغمسا في أعمال عادية كصنع الأسماك الذهبية مثلما حدث مع الكولونيل أورليانو بوين ديا في "مائة عام من العزلة"، أو تائها محبطا مكتئبا مثلما وصف نهاية سيمون بوليفار في رواية "الجنرال في المتاهة". المكان اليوتوبي والزمن الدائري استطاع ماركيز صنع يوتوبيا خاصة به، لم تكن مثالية في أي شيء سوى واقعيتها، التي لم يجرحها ما اكتنف حياة الأبطال من غرائب، "ماكوندو" كانت البلدة الأولى التي شهدت صنع الإنسان لتاريخ جديد يهرب به من تاريخ آخر، مثلما روى لنا ظروف تأسيسها في "مائة عام من العزلة"، كانت بعيدة عن مكان وقريبة -كما اكتشفت أورسولا- من كل مكان. وبرغم أن ماكوندو أنشئت بغرض هرب خوزيه أركاديو بوين ديا من ذكرى قتله برودينثيو أجويلار، إلا أن سكانها فزعوا جراء إصابتهم بفقدان الذاكرة الجمعي، واخترعوا طريقة بدائية لمحاربة النسيان (الكتابة)، وهنا يربط ماركيز عبر إبراز معاناة فاقدي الذاكرة بين الأرض والتاريخ كأحد أهم مكونات الهوية. وكشفت مذبحة إضراب عمال الموز (ارتكبها الجيش الكولومبي في ديسمبر 1928) وذكرها ماركيز في "مائة عام من العزلة"، عن زيف التاريخ الرسمي والحاجة الملحة لتاريخ حقيقي، عبر تساؤل شاهد عيان على المذبحة إن كانت وقعت فعليا أم لا؟. وكان ماركيز يرى أن الزمن دائري وأن السارد له حق التقدم والتراجع فيه دون التقيد بالتقويم المعتمد، وهذا ما أبرزته "مائة عام من العزلة" التي يكتشف قارؤها في نهايتها أن البطل أعاد دون قصد ترتيب بطاقات دون عليها تاريخ عائلة بوين ديا، وبلدة ماكوندو، دون التقيد بتتابعها الزمني. إرهاصات ما قبل الرحيل في يوليو 2012، أكد خايمي شقيق جابريل جارسيا ماركيز، أن شقيقه يعاني من خرف الشيخوخة، موضحا أن جابرييل الذي بلغ وقتها من العمر 85 عاما، يعاني مشكلات حادة بالذاكرة أوقفته عن الكتابة منذ إصابته بها، وأنه يتصل به هاتفيا بشكل متواصل ليسأله عن أشياء بديهية جدا. في حين نفى جايمي آبيللو مدير مؤسسة "نيو جورناليزم" والصديق المقرب من ماركيز، إصابته بمرض خرف الشيخوخة وفقدان الذاكرة، موجها خطابه للجميع: "رجاء توقفوا عن الرسائل التضامنية، جابرييل ليس مجنونا، هو فقط شخص هرم وفقد جزءا من ذاكرته، ولا زلت أستمتع بكوني صديقه". وقال آبيللو: "لن أعلق على ما ورد بخصوص حياة ماركيز الخاصة، ولكنني أؤكد أنه لا يوجد أي تشخيص طبي لإصابة ماركيز بفقدان الذاكرة أو خرف الشيخوخة". وفي يوم وفاته، الخميس 17 أبريل الجاري، أفادت تقارير إعلامية بتدهور الحالة الصحية لجابرييل جارسيا ماركيز، وخروجه من المستشفى بعد خضوعه للعلاج لمدة 9 أيام إثر إصابته بالتهابات في الرئة والمسالك البولية، فيما أكدت أسرته -في بيان- أن حالته باتت مستقرة رغم ضعفه الصحي العام.