تكرار سيناريو الرقة والموصل.. كيف يحاول داعش إعادة إنتاج تكتيكاته فى أفريقيا؟

منذ سنوات، يشهد شمال شرق الصومال حالة من الكرّ والفرّ بين قوات ولاية بونتلاند المحلية المدعومة من شركاء دوليين، وتنظيم الدولة الإسلامية «داعش» الذى اتخذ من جبال الميسكاد ووديانها الوعرة معاقل حصينة.
المنطقة الجبلية القاسية، بما توفره من أنفاق طبيعية وكهوف عميقة، شكّلت ملاذًا مثاليًا لعناصر التنظيم الفارين من الضربات العسكرية فى الشرق الأوسط ومناطق إفريقية أخرى.
ومع حلول عام 2025، بدا أن بونتلاند، بدعم من القيادة الأمريكية فى إفريقيا «أفريكوم»، قد قررت الانتقال إلى مرحلة الحسم عبر عمليات عسكرية موسعة تستهدف آخر جيوب داعش فى وادى بالاد.
العملية الأخيرة، التى استمرت أسبوعين، لم تكن مجرد تحرك عسكرى تقليدي، بل حملة مركبة ذات أبعاد استراتيجية، تهدف إلى ضرب قلب التنظيم وتفكيك بنيته القيادية.
التنظيم من جانبه لم يقف مكتوف الأيدي، إذ لجأ إلى تكتيكاته المعروفة باستخدام الكمائن، التفجيرات الانتحارية، وحرب القناصة، محاولًا استنزاف القوات المهاجمة وإطالة أمد المعركة. كما أثبتت مجريات الأحداث أن التنظيم لا يزال يتمتع بقدرات تنظيمية ولوجستية رغم الخسائر الكبيرة التى تكبدها خلال العام.
هذا المشهد المعقد لا يعكس فقط مواجهة عسكرية على أرض صومالية، بل معركة تتجاوز حدود الإقليم، إذ يُحتمل أن يكون من بين المستهدفين قيادات عليا ذات بعد عالمى فى التنظيم. وعليه، فإن نتائج هذه المعركة قد تعيد رسم التوازنات داخل الشبكات الجهادية الدولية، وتحدد مستقبل نفوذ داعش فى إفريقيا والقرن الإفريقى على وجه الخصوص.
عملية مشتركة ضد ملاذات داعش
اختتمت قوات ولاية بونتلاند الصومالية، بدعم مباشر من القيادة الأمريكية فى إفريقيا «أفريكوم»، عملية عسكرية واسعة النطاق فى 26 أغسطس، استمرت أسبوعين كاملين.
العملية جرت فى جبال الميسكاد الوعرة شمال شرق الصومال، وهى منطقة تُعرف بتضاريسها الجبلية الصعبة التى وفّرت على مدار السنوات الماضية ملاذًا آمنًا لعناصر تنظيم الدولة الإسلامية «داعش الصومال».
جاءت هذه العملية بعد أشهر من التحضير والتنسيق بين بونتلاند والولايات المتحدة، فى إطار خطة تهدف إلى القضاء على آخر الجيوب التى ما زال التنظيم يتحصن بها داخل وادى بالاد.
وتُعد هذه المنطقة إحدى أبرز النقاط الاستراتيجية بالنسبة للتنظيم، نظرًا لاحتوائها على شبكات أنفاق ومخابئ طبيعية جعلت الوصول إليها مهمة معقدة، الأمر الذى استدعى تدخّل الطيران الأمريكى لتأمين الغطاء الجوى للقوات المتقدمة.
بحسب بيان صادر عن بونتلاند، فإن الهدف الرئيسى من الهجوم كان استهداف "ملاذات قيادة داعش الآمنة"، وهو ما يعكس أن العملية لم تكن مجرد مداهمة عسكرية ضد مقاتلين عاديين، بل جاءت لتوجيه ضربة مباشرة للبنية القيادية للتنظيم.
وتؤكد مصادر أمنية أن العملية تشكّل إحدى أخطر الحملات ضد داعش الصومال منذ سنوات، نظرًا لاحتمال وجود قيادات رفيعة المستوى داخل المنطقة المستهدفة.
كمين دموى وتضارب فى أعداد الضحايا
فى 22 أغسطس، واجهت القوات المتقدمة فى وادى بالاد واحدة من أعنف المواجهات منذ بداية العملية، بعدما نصبت عناصر تنظيم الدولة الإسلامية كمينًا محكمًا للقوات التابعة لبونتلاند.
الكمين استهدف القوات أثناء دخولها الوادى الجبلى المعروف بتضاريسه الوعرة، وهو ما مكّن مقاتلى داعش من استخدام عنصر المفاجأة ونيران الأسلحة الثقيلة والقناصة لتحقيق أكبر قدر من الخسائر فى صفوف القوات الحكومية.
المصادر المحلية تحدثت عن حصيلة ثقيلة للكمين، مشيرة إلى مقتل ما لا يقل عن 30 جنديًا وإصابة نحو 80 آخرين بجروح متفاوتة.
ووصفت المصادر العملية بأنها واحدة من أكثر الهجمات دموية التى يشنها التنظيم فى المنطقة منذ أشهر، معتبرة أن التخطيط الجيد واستخدام التضاريس الطبيعية منح المهاجمين أفضلية واضحة فى بداية المواجهة.
لكن هذه الأرقام سرعان ما أثارت جدلًا واسعًا، بعدما سارع مسؤولو بونتلاند إلى التشكيك فى صحتها عبر منصات التواصل الاجتماعي، مؤكدين أن الأعداد مبالغ فيها بشكل كبير.
وأشاروا إلى أن الهدف من تضخيم أعداد الضحايا هو رفع معنويات مقاتلى داعش وإظهارهم بمظهر المنتصر أمام أنصارهم.
ورغم غياب أرقام دقيقة رسمية، إلا أن المؤكد أن الكمين كان الأعنف منذ هجمات فبراير الماضي، ما يعكس حجم التحدى الذى تواجهه قوات بونتلاند فى القضاء على التنظيم داخل معاقله الأخيرة.
حصار وإيقاف الغارات الجوية
بعد التقدم داخل وادى بالاد، ركزت قوات بونتلاند استراتيجيتها على فرض حصار كامل لعزل مقاتلى داعش عن أى خطوط إمداد أو ممرات هروب محتملة.
فقد تمكنت القوات من السيطرة على آبار مياه رئيسية فى المنطقة، ما اعتُبر خطوة حاسمة لإضعاف قدرة التنظيم على الصمود لفترات طويلة داخل الكهوف والمخابئ.
كما أغلقت جميع الطرق المؤدية إلى الوادي، لتُحكم بذلك الخناق على المقاتلين المتحصنين فى الجبال.
فى خطوة تعكس الثقة بتقدمها، منحت بونتلاند عناصر داعش المحاصرين مهلة زمنية مدتها 72 ساعة للاستسلام، محاولةً بذلك تفادى إطالة أمد المعركة وتقليل الخسائر البشرية بين الجنود والسكان المحليين على حد سواء.
لكن المؤشرات أوضحت أن المقاتلين، وغالبيتهم من الأجانب الأكثر تشددًا، لم يُبدوا أى استعداد للتسليم، وهو ما زاد من احتمالية استمرار المواجهات الدامية.
فى الوقت نفسه، أفادت تقارير ميدانية بأن الغارات الجوية الأمريكية، التى شكلت عامل دعم حاسم فى الأيام الأولى للعملية، توقفت فجأة. السبب- وفق مصادر محلية- يعود إلى وجود نساء وأطفال فى المنطقة المحاصرة، ما دفع واشنطن وحلفاءها لتجميد القصف تجنبًا لسقوط ضحايا مدنيين.
هذا القرار وضع قوات بونتلاند أمام تحدٍ إضافي، حيث اضطرت إلى مواصلة القتال برًا دون غطاء جوي، فى مواجهة مقاتلين يمتلكون خبرة فى حرب العصابات ويستفيدون من الطبيعة الجغرافية الصعبة للوادي.
تفجيرات انتحارية ورد دموي
فى 27 أغسطس، صعّد تنظيم داعش من أساليبه القتالية عبر تنفيذ أول هجوم انتحارى منذ بداية العملية العسكرية فى وادى بالاد.
وجاء هذا التحرك بعد أيام من الحصار الخانق الذى فرضته قوات بونتلاند على مقاتلى التنظيم، ما دفع عناصر داعش إلى اللجوء لواحدة من أكثر تكتيكاتهم دموية، فى محاولة لفك الطوق وتوجيه رسالة بأنهم ما زالوا يمتلكون القدرة على شن هجمات نوعية.
أعلنت قوات بونتلاند أنها تمكنت من قتل ستة انتحاريين شاركوا فى العملية، بينهم عناصر كانوا يرتدون أحزمة ناسفة ويستعدون لتفجير أنفسهم وسط القوات المتقدمة.
ورغم نجاح القوات فى إحباط التفجيرات ومنع وقوع كارثة أكبر، إلا أن الهجوم أكد أن داعش لا يزال يحتفظ بقدرات على تصنيع المتفجرات وتجهيز الانتحاريين، حتى بعد الضربات الموجعة التى تعرض لها خلال الأشهر الماضية.
بالتوازى مع الهجوم الانتحاري، كثف مقاتلو التنظيم من عمليات القنص والكمائن الصغيرة بين 25 و27 أغسطس، ما أسفر عن مقتل 23 جنديًا إضافيًا.
هذا التصعيد المتزامن كشف عن استراتيجية مزدوجة اعتمدها داعش، تقوم على استنزاف القوات عبر هجمات متفرقة من جهة، وإرباكها بعمليات انتحارية من جهة أخرى.
وبذلك نجح التنظيم فى إطالة أمد المعركة وزيادة كلفة العملية على بونتلاند، رغم الضغوط الكبيرة التى يواجهها داخل معاقله الأخيرة.
استهداف قيادات رفيعة المستوى
لا تقتصر أهداف العملية العسكرية فى وادى بالاد على استنزاف مقاتلى داعش المحليين، بل يبدو أنها مصممة بدقة لاستهداف البنية القيادية للتنظيم. فالتوقيت، وطبيعة الغارات الجوية، وحجم المشاركة الأمريكية.
كلها مؤشرات تعكس أن المعركة تتجاوز نطاق «ولاية داعش الصومالية» لتضرب فى عمق القيادة العليا التى تدير شبكات التنظيم فى شرق إفريقيا وربما على المستوى العالمي.
وقد تداولت تقارير غير مؤكدة على منصات التواصل الاجتماعى معلومات عن أن إحدى الغارات الأمريكية، التى نُفذت فى 23 أغسطس، استهدفت عيسى فاهييه، نائب زعيم التنظيم وأحد أبرز المقربين من عبد القادر مؤمن.
ويُعتبر فاهييه شخصية محورية داخل داعش الصومال، إذ يتولى مسؤوليات قيادية حساسة فى ظل انشغال مؤمن بمهامه الإقليمية والعالمية، ما يجعله الرجل الثانى الأكثر تأثيرًا فى هرم القيادة.
المقاومة العنيفة التى أبدتها عناصر داعش خلال الأيام الأولى للعملية تُعزز هذه الاحتمالات، إذ لم يعتد التنظيم الانخراط فى مواجهات واسعة النطاق إلا عندما يتعلق الأمر بحماية قادة بارزين أو مواقع استراتيجية.
وتشير تقديرات أمنية إلى أن المنطقة المستهدفة قد تضم مقاتلين مخضرمين ذوى خبرة فى الحروب السابقة بسوريا والعراق، وهو ما يفسر تكتيكاتهم القتالية المتقدمة وحرصهم الشديد على منع سقوط الوادى فى يد قوات بونتلاند.
عبد القادر مؤمن فى دائرة الضوء
أثارت بيانات كل من أفريكوم وقوات بونتلاند الانتباه حين تحدثت عن استهداف «قيادة داعش» دون تحديدها بأنها تقتصر على «ولاية داعش الصومالية».
هذه الصياغة فتحت الباب أمام تكهنات واسعة بأن العملية ربما تستهدف شخصيات قيادية تتجاوز البعد المحلي، وعلى رأسها عبد القادر مؤمن، الزعيم المؤسس لفرع داعش فى الصومال وأحد أبرز الأسماء التى ارتبطت بالقيادة الإقليمية والعالمية للتنظيم.
يُعتقد أن مؤمن يقود منذ فترة المكتب الإقليمى لتنظيم داعش فى شرق إفريقيا، وهو مكتب يتولى الإشراف على عمليات الفروع المنتشرة فى الصومال وكينيا والكونغو وموزمبيق.
وتشير تقديرات مراكز أبحاث غربية إلى أن دوره لم يعد محصورًا فى الشأن الإقليمى فحسب، بل قد يكون قد ارتقى إلى موقع الزعيم العالمى للتنظيم، خاصة مع غياب أسماء أخرى بارزة عن الساحة فى السنوات الأخيرة. هذه الفرضية دفعت كثيرين إلى اعتبار العملية فى وادى بالاد محاولة لقطع رأس التنظيم عالميًا وليس فقط محليًا.
تقارير الأمم المتحدة الصادرة فى يوليو الماضى عززت هذه الشكوك، إذ أكدت أن مؤمن لا يزال متواجدًا داخل الأراضى الصومالية، رغم الشائعات المتكررة حول مقتله أو فراره.
وإذا صحت هذه التقديرات، فإن العملية الجارية لا تمثل مجرد معركة ميدانية، بل تشكل اختبارًا استراتيجيًا لقدرة بونتلاند وحلفائها على الإطاحة بقيادة داعش العليا، فى خطوة قد تعيد رسم ملامح المشهد الجهادى فى القرن الأفريقى بأكمله.
خسائر فادحة للتنظيم دون القضاء على القيادة
منذ مطلع عام 2025، تعرض تنظيم داعش فى الصومال لسلسلة من الضربات الموجعة التى أضعفت قدرته القتالية بشكل واضح. فبحسب تقديرات الأمم المتحدة وتقارير أمنية، قُتل ما يقرب من 200 مقاتل خلال الحملات العسكرية المكثفة، فيما أُلقى القبض على نحو 150 عنصرًا إضافيًا.
هذه الأرقام تُعد كبيرة بالنظر إلى أن القوة الإجمالية للتنظيم فى الصومال تُقدَّر بما بين 600 و800 مقاتل، ما يعنى أن نحو نصف التشكيل العسكرى للتنظيم قد تم تحييده خلال أقل من عام واحد.
ورغم هذه الخسائر البشرية الثقيلة، فإن العمليات العسكرية لم تنجح حتى الآن فى الوصول إلى الصف الأول من القيادة، الذى ما زال يحافظ على تماسكه وقدرته على توجيه العمليات.
هذا العجز فى استهداف القيادات يعكس طبيعة التحدى الأمني، إذ يعتمد التنظيم على شبكة من الكهوف والمخابئ المحصنة فى جبال الميسكاد، ما يمنح قادته فرصة للتخفى وإعادة تنظيم الصفوف حتى فى ظل الضغط العسكرى المتواصل.
فى يوليو الماضي، حققت القوات الأمريكية اختراقًا مهمًا عندما تمكنت من اعتقال رئيس مالية داعش فى المنطقة. ويُعتقد أن هذا القيادى كان مسئولًا أساسيًا عن إدارة التحويلات المالية وتأمين الإمدادات للمقاتلين، إضافة إلى الإشراف على مكتب «الكرار» الإقليمي، الذى يُعتبر القلب المالى للتنظيم فى شرق أفريقيا.
ومع أن هذا الاعتقال شكّل ضربة لوجستية قوية لداعش، إلا أنه لم يكن كافيًا لتفكيك هرم القيادة العليا، ما يعنى أن التنظيم ما زال قادرًا على الصمود والمناورة فى معاقله الجبلية.
بونتلاند فى مواجهة مقاتلين أجانب
تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن المشهد الميدانى فى بونتلاند يزداد تعقيدًا بسبب الحضور الكثيف للمقاتلين الأجانب فى صفوف تنظيم داعش.
فهؤلاء القادمون من خارج الصومال لا يملكون فقط خبرات قتالية سابقة اكتسبوها من بؤر الصراع المختلفة، بل يتميزون أيضًا بقدرة عالية على التنظيم والانضباط العسكري، ما يجعلهم قوة مؤثرة داخل المعسكرات والمواجهات المسلحة.
ويُعرف هؤلاء المقاتلون الأجانب بتشددهم الأيديولوجى العميق، حيث يتبنون خطابًا متصلبًا يرفض أى شكل من أشكال التسوية أو الاستسلام.
هذا الانغلاق الفكرى يجعلهم أكثر ميلًا لخوض معارك طويلة الأمد، إذ يعتبرون التراجع أو التخلى عن السلاح خيانة لفكرتهم العقائدية ومشروعهم الجهادي.
وبالتالي، فإن المواجهة معهم غالبًا ما تكون أكثر دموية واستنزافًا مقارنة بمقاتلى التنظيم المحليين.
هذا الواقع يضع سلطات بونتلاند أمام تحديات أمنية استثنائية، فالتعامل مع مقاتلين مستعدين للقتال حتى الرمق الأخير يعنى أن العمليات العسكرية ستكون طويلة ومكلفة
كما أن وجود هؤلاء الأجانب يعزز من خطورة التنظيم فى المنطقة، ليس فقط من الناحية العسكرية، بل أيضًا من حيث قدرتهم على استقطاب عناصر محلية جديدة من خلال خطابهم المتشدد وتجاربهم القتالية، ما يطيل أمد التهديد الأمنى فى شمال الصومال.
تكتيكات داعش.. تكرار سيناريو الرقة والموصل
تُظهر المواجهات الجارية فى بونتلاند أن تنظيم داعش يحاول تكرار السيناريوهات التى اتبعها سابقًا فى الرقة والموصل وسرت.
ففى تلك المدن، لجأ التنظيم إلى تكتيكات مرهقة للخصوم، أبرزها استخدام العمليات الانتحارية المكثفة ونشر القناصة فى مواقع استراتيجية تعيق تقدم القوات النظامية.
هذا النمط القتالى يهدف إلى استنزاف العدو ماديًا ومعنويًا وإطالة أمد المعارك لأطول فترة ممكنة.
ورغم الضربات الأمنية المتكررة، لا يزال التنظيم يحرص على الحفاظ على قدراته اللوجستية والتقنية. فقد تمكنت قوات بونتلاند من تدمير بعض مصانع القنابل البدائية خلال الهجوم الأخير، وهو ما مثّل انتكاسة مهمة بالنسبة لداعش.
غير أن ذلك لم يمنع التنظيم من إعادة تأهيل شبكاته الميدانية والاعتماد على خبرة عناصره الأجانب فى تصنيع المتفجرات محليًا، مما يعكس مرونة تكتيكية عالية.
ويؤكد هجوم 27 أغسطس أن داعش لم يفقد بعد قدرته على إنتاج العبوات الناسفة والمتفجرات بكميات تكفى لمواصلة حرب الاستنزاف.
فالتنظيم يراهن على هذه القدرة باعتبارها أحد أهم عناصر قوته الدفاعية والهجومية فى آن واحد، إذ تسمح له بمواصلة الضغط على خصومه، وتعويض خسائره البشرية الكبيرة من خلال إيقاع أكبر عدد ممكن من الإصابات فى صفوف القوات المهاجمة.
خطر هروب القيادات عبر الكهوف
المعركة مع تنظيم داعش فى بونتلاند تبدو بعيدة عن الحسم السريع، فالبنية التحتية التى أنشأها مقاتلو التنظيم خلال السنوات الماضية، خصوصًا شبكات الأنفاق والمخابئ المحفورة فى الجبال والكهوف، تمنحهم قدرة على المناورة والصمود.
هذه التحصينات تجعل أى عملية تمشيط أو ملاحقة تستغرق وقتًا طويلًا وتستهلك موارد ضخمة من القوات الحكومية وحلفائها.
وتزداد خطورة هذه الكهوف والأنفاق فى كونها ليست مجرد مخابئ، بل أيضًا ممرات استراتيجية تسمح بالانتقال من موقع إلى آخر بعيدًا عن أعين المراقبة الجوية أو الاستطلاع البري. وبذلك، تبقى احتمالات فرار بعض القيادات العليا قائمة، إذ يمكنهم استغلال هذه الممرات للانسحاب فى اللحظة المناسبة، والنجاة من الضربات المباشرة.
هذا المشهد يعيد إلى الأذهان سيناريو كهوف تورا بورا فى أفغانستان عام 2001، عندما تمكن أسامة بن لادن وعدد من قادة القاعدة من الإفلات عبر شبكة طبيعية ومعقدة من الممرات الجبلية. واليوم، يخشى المراقبون أن يتكرر المشهد نفسه فى الصومال، بما يسمح لقيادات داعش بالهروب وإعادة تجميع الصفوف لاحقًا فى مناطق أخرى.
الخاتمة
المعارك الجارية فى بونتلاند تكشف أن القضاء على داعش فى الصومال لن يكون مهمة سريعة أو سهلة، مهما بلغت قوة الضربات العسكرية. فشبكات الكهوف والأنفاق، والمقاتلون الأجانب ذوو الخبرة الأيديولوجية والعسكرية، تجعل التنظيم خصمًا عنيدًا قادرًا على امتصاص الخسائر ومواصلة القتال. هذه العوامل مجتمعة تفرض على بونتلاند وحلفائها معركة طويلة الأمد تستنزف الطاقات والموارد.
وفى الوقت نفسه، تبقى مسألة استهداف القيادة العليا للتنظيم، وعلى رأسها عبد القادر مؤمن ونائبه عيسى فاهييه، هى الرهان الأكبر فى هذه المواجهة. إذ إن تحييد هذه القيادات يمكن أن يشكل نقطة تحول حاسمة، فيما قد يؤدى فشل العملية إلى تكرار سيناريو تورا بورا، مع هروب القادة إلى أماكن أكثر أمانًا وإعادة بناء شبكات جديدة.
المخاطر لا تقف عند حدود الصومال وحدها، فنجاح داعش فى الصمود أو إعادة التموضع قد يعزز من قدرته على تنسيق عمليات خارجية، مستفيدًا من موقعه الجغرافى الاستراتيجى على سواحل القرن الإفريقي، وارتباطه بمكاتب إقليمية تشرف على التمويل والعمليات العابرة للحدود. هذا ما يجعل المعركة فى بونتلاند ذات أهمية عالمية، لا محلية فقط.
وبينما يترقب العالم نتائج العملية، يبقى السؤال الجوهري: هل ستتمكن بونتلاند وواشنطن من حسم المعركة لصالحهما، أم أن جبال الميسكاد ستتحول إلى ساحة استنزاف جديدة، تُطيل عمر التنظيم وتؤخر نهايته؟ الإجابة ستحدد ملامح المرحلة المقبلة فى الحرب على الإرهاب فى إفريقيا، وربما تعيد رسم خريطة الصراع الجهادى عالميًا.