دائما ما يكون العمل الإبداعي الأول محل انتظارمن جهة، ومحل تحفز من جهة أخرى، إلا أن ديوان بائع البهجة للشاعر عبد الحكيم صالح الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة يُعد خروجا عن ذلك؛ فبائع البهجة صوت يفرض نفسه منذ البداية، ويؤكد أننا بانتظار شاعر له قصيدته الخاصة. إن بائع البهجة صوت شعرى مليء بالألم والحزن، (قطرات الماء العكرة، المعلقة على رئتيه، كانت نذير شؤم )، إنه صوت يبحث عن خلاصه وسط الزحام(الجروح ذات الحواف الخشنة، والقانية، تكفى، لصنع باقة حب)، صوت تبدو فيه الأنا معذبة، حائرة، "(كانت الثقوب تملأ جسده، وكانت كافية ليمروا منها مجددا")، والآخر أحيانا ما يبدو باهتا، وأحيانا أخرى ما يبدو مركزيا في العمل الشعرى ككل، هذا العمل الذى يقع في ست قصائد تتراوح ما بين الطول والقصر، (الذين قايضوا الوطن، وارتضوا كبيرهم، ذلك الخصى ، ملكا). وإذا اما تفقنا على أن أفكار ما بعد الحداثة هي أفكار التشكيك واللا- واقعية، والذاتية، والنفعية، والنسبية، والسيطرة الجمعية التامة، والغيرية، والمساواة واللا- فردية، عالم من التناقضات المتصارعة، وعواطف، ومواهب، ومشاعر تقود إلى أفعال أفضل، أو تكون أفضل؛ فإن "بائع البهجة" يُجسد لتلك الأفكار عن جدارة، (على حافة الصحراء ،سنوات تمر، ولم نزل ننتظر المطر)، (متعبة من مطاردة الظلال، تأتى الكلاب ليلا، لتأتنس بك ). يقول أدونيس أن القصيدة تتجاوز معناها المباشر لتصل إلى معنى أوسع وأعمق، إنها تعلو على ذاتها، وتشير إلى أكثر مما تقول؛ فقصيدة بائع البهجة أو بائع البطاطا الشهير بميدان التحرير تتجاوز محيطها الذى هو الطفل؛ لتكون محيط أكبر حيث اليأس الذى ينتظر الجميع. يُقدم عبد الحكيم صالح بديوانه بائع البهجة شريطا سينمائيا شعريا لحيوات متناثرة هنا وهناك، حيوات انتهت وحيوات مازالت تود الحياة رغم مرارتها الدائمة، إنه ديوان أشبه بالومضة، الومضة الشعرية الخاطفة ، وعلى الرغم من أن كل قصيدة تعد عالما خاصا بذاتها، إلا أن الديوان ككل يُعد حالة متكاملة، أو بمعنى أدق مرثية للحاضر والماضي، وسط غياب تام للمستقبل، (الأشياء في موضوعها تماما، الطوف الخشبي، الأجنحة المشرعة، والريح)، هذه الحالة من الثبات الكامن في كل شيء تجعل الحلم مستحيلا، (لم يكن شيئا قد تبدل، الأمهات يحكن الملابس، والآباء في الشرفات، فقط عادوا وقد كبرت ملامحهم قليلا)، إن هذه الحالة الاستاتيكية نلاحظها في معظم القصائد، وإن دلت فهي تدل على مجتمع خامل، وحتى عندما حدثت الثورة وصار الميدان ملاذا وجدنا المفارقة، وصارت ديناميكية التغيير حلم منشود لكنه مازال محلقا هناك بعيدا، (هكذا بدت المدن ، التي أحببنا، ولفظتنا ،ذات مساء، عراة، ننشد أوطانا أخرى)، ولكن هذا الوطن البديل، الوطن الطامح للحرية، وطن بائع البهجة سرعان ما صار وطن الغاز المسيل للدموع، ووطن الجند المطاردين للأحلام، (الشوارع المثقلة بالغاز، أحذية الجند، والرصاصات، كان علينا عبورها، لنلحق بهم، أولئك الذين غافلونا يوما، وصعدوا إلى السماء)، (والقتلة المزهوون، يطالعون المارة في ارتياب، وحدها، بقع الدم، تؤرق المخرج). إن ديوان" بائع البهجة" لا يمكن اعتباره ديوانا عن ثورة يناير، وإن كان قد أشار لبدايتها في مقاطع من قصيدة بائع البهجة، ولكنه ديوان التمرد والثورة على الذات في مواجهة الآخر، وثورة على الآخر، في مواجهة الذات، (الغرقى، عادة ما يحذرون النهر، يمضون المساءات بعيد، عرايا، ينزعون العطن العالق، ويبتهلون، أن لا يتساقط المطر)، إنه ديوان البحث عن الماضي والحاضر من خلال لغة شعرية تتنبأ عن ميلاد شاعر جديد في الساحة الثقافية المصرية.