لم يكن عدم الانتقام الإيراني في ذكرى اغتيال قاسم سليماني قائد فيلق القدس، مفاجأة، لأن رد الفعل الإيراني تم اختباره بالفعل عشرات المرات طيلة الفترة الماضية، فالقواعد العسكرية الإيرانية في سوريا تعرضت لغارات إسرائيلية معلن عنها - من طرف واحد بالطبع - ولم تجرؤ طهران على مجرد الشكوى أو التنديد في معظم الحالات، رغم ما اوقعته تلك الهجمات من خسائر بشرية مؤلمة سواء في القوات الإيرانية النظامية أو حتى في الميليشيات التابعة لها كزينبيون وفاطميون. كما أن الاستهداف طال العمق الإيراني نفسه، دون أن يحرك نظام الولي الفقيه ساكنًا، رغم أن الهجمات طالت مواقع عسكرية سرية وحساسة، بل تم تفجير مفاعل نطنز النووي، وتدمير أجهزة حساسة، مما تسبب باعتراف طهران في تأخير المشروع النووي شهورا إلى الوراء. بالإضافة إلى أن الحشد العسكري الأمريكي الكبير في مياه الخليج العربي أعطى معادلة الردع الأمريكي مصداقية كبيرة، كانت تفتقر إليها قبل عام مثلًا، مما جعل الموقف الإيراني شديد الحذر من الانجرار والانجراف إلى أي تصعيد قد يؤدي إلى ما لا يحمد عقباه في وقت هو ليس في وارد تحمل آثار مغامرة بهذا الحجم. ولا يعني ذلك أن نظام الملالي تخلى نهائيا عن فكرة الانتقام بل إن الظروف الحالية فقط ليست في صالحه، على الأقل في الأيام الأخيرة لإدارة ترامب التي ليس لديها الاستعداد لتوجيه ضربة قاصمة لطهران حال تخطت الخطوط الحمر، فعلى سبيل المثال فإن حادث إسقاط الطائرة بدون طيار الأمريكية الذي وقع في يونيو 2019، لو حدث اليوم لكان رد فعل واشنطن مختلف تمامًا، وهذا معروف تمامًا للإيرانيين. لكن يبقى التهديد النووي هو أخطر الملفات حاليًا، نظرًا إلى حجم الاختراق الذي نحن بصدده الآن والذي بدأ بعد مقتل العالم النووي محسن فخري زاده، والمتمثل في قرارات إلغاء القيود على نسبة تخصيب سادس فلوريد اليورانيوم في مفاعلاتها النووية، والخطوة التي اتخذتها إيران منذ قليل بالإعلان عن بدء التخصيب الفعلي في مفاعل فوردو للوصول إلى نسبة 20٪، والتي تعني قطع نصف المسافة للوصول إلى النسبة اللازمة لإنتاج السلاح النووي، وهو ما يمثل تحديًا لدول الاتفاق النووى مع طهران.