رغم التقارب الجغرافى والثقافى بين العراق والمملكة العربية السعودية، فإن العلاقات بينهما شهدت محطات من التوتر منذ حرب الخليج الثانية بفعل سياسات «صدام حسين» العدوانية تجاه دول الخليج لا سيما الكويت والسعودية، وما تبعها من سياسات التبعية لطهران التى نحتها الحكومات العراقية فى مرحلة ما بعد سقوط صدام. وتعمل السياسة الخارجية للرياض حاليًا على تجاوز خلافات الماضى والتقارب مع العراق بهدف محاصرة النفوذ الإيراني، وذلك فى سياق السياسة الدولية التى يقودها الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» لمواجهة الأطماع الإيرانية فى المنطقة. فى هذا الاتجاه، يحاول التقرير دراسة الأبعاد الاستراتيجية لتحركات المملكة العربية السعودية الأخيرة تجاه بغداد، والإسهامات التى يُمكن أن تضيفها هذا التحركات بمختلف مستوياتها السياسية والاقتصادية والثقافية والدبلوماسية فى سياسة إضعاف النفوذ الإيرانى فى المنطقة. مؤشرات التباعد بين طهرانوبغداد تشهد العلاقات العراقيةالإيرانية مؤخرًا حالة من التغيير الاستراتيجى للجانب العراقى الذى يتبرأ من سياسات التبعية والأحلاف التى اتبعتها الحكومات السابقة. أدى ذلك إلى تحفيز الرياض للتقارب مع بغداد من مدخل التعاون الاقتصادي، والتنسيق الأمنى والسياسي، وفى هذا الصدد نشير فيما يلى إلى محطات التوتر التى أصابت العلاقات العراقيةالإيرانية مؤخرًا: 1. رفض العراق إلغاء نظام التأشيرات بين البلدين: رغم التعاون العراقىالإيرانى فى محاربة تنظيم الدولة؛ فإن بغداد غير مطمئنة لدعم طهران للحركات الطائفية المسلحة. وفى سياقٍ آخر، رفضت بغداد اقتراح الجانب الإيرانى بإلغاء تأشيرات الدخول بين البلدين، ولكنها استجابت فى الوقت نفسه لمقترح إلغاء الرسوم على تأشيرات الدخول. وتُعد العتبات المقدسة فى العراق مقصدًا لمئات الآلاف من الإيرانيين الذين يذهبون للعراق بهدف السياحة الدينية، ورغم رفض الرئيس العراقى للاقتراح الإيرانى بالإلغاء الكامل لتأشيرات الدخول بين البلدين، ما زالت تعارض الأوساط النيابية العراقية خطوة إلغاء رسوم التأشيرة، معتبرين أنه جاء بدوافع سياسية بعيدًا عن المصالح الاقتصادية المشتركة، خاصة أنه لا جدوى اقتصادية من اتخاذ هذه الخطوة فى ظل الحصار الدولى المفروض على طهران بفعل إصرارها على تطوير برنامجها النووي. 2. التخلى عن سياسة الأحلاف: تقوم سياسة الحكومة العراقية الحالية بقيادة «عبدالمهدي» على تبنى سياسة الحياد فى الصراع الذى تشهده العلاقات الخليجية الإيرانية؛ حيث تنأى بنفسها عن هذه التجاذبات مُركزة اهتمامها على تحقيق المصالح الاقتصادية خاصة بعد مرحلة الإنهاك التى مرَّ بها الاقتصاد العراقى منذ بداية الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية التى استنزفت عملته الصعبة فى إعادة بناء الجيش والقوات الأمنية لاستعادة الأراضى التى كان يسيطر عليها تنظيم الدولة. 3. التنافس على المرجعية: بعث آية الله «على السيستاني» برسائل حادة لدى استقباله الرئيس الإيرانى «حسن روحاني» مطلع مارس 2019؛ حيث طالبه «السيستاني» بضرورة احترام سيادة العراق، ومصالحه فى الحفاظ على علاقات متوازنة مع جيرانه. وانتقد «السيستاني» دعم طهران للميليشيات المسلحة التى ما زالت تتبع إيران، ودعا إلى ضرورة أن يبقى السلاح فى يد الدولة العراقية وحدها. ويُعد اللقاء الذى جمع بين «روحاني» و«السيستاني» هو الأول من نوعه، وتُرجع التقارير والتحليلات هذا الاستقبال إلى النهج العقلانى الذى يمثله الرئيس «روحاني»، ومرجعية النجف مقارنة بالنهج المتشدد الذى يُمثله «على خامنئي» ومرجعية قُم. لذا يُعد هذا الاستقبال دعمًا للإصلاحيين فى إيران. ويتأكد هذا الطرح بعدم استقبال مرجعيات النجف للرئيس «أحمدى نجاد» الذى يمثل التيار المحافظ فى إيران، رغم زيارته للعتبات المقدسة فى خضم زياراته السياسية للعراق. ودلَّ ذلك وقتها على عدم رضا «السيستاني» ومرجعيات النجف على السياسة المتشددة التى يتبعها «نجاد»، وأدت لتوتير علاقاته مع جيرانه من دول الخليج. ويرفض «السيستاني» الدور المشبوه الذى تلعبه طهران لتقويض نفوذ المرجعيات النجفية لصالح زعماء دينيين تابعين لطهران التى تمول المدارس والجمعيات الخيرية وبناء المساجد بهدف توطيد سلطة رجالاتها من علماء الدين فى وجه المرجعية الرسمية. مؤشرات التقارب السعودى العراقي شهدت الفترة التى تلت حكومة «حيدر العبادي» تطورًا كبيرًا فى العلاقات العراقية السعودية سواءً على مستوى تبادل الزيارات الرسمية أو زيادة الاستثمار المباشر بين البلدين. 1. تبادل الزيارات الرسمية: مثَّلت زيارة رئيس الوزراء العراقى «عادل عبدالمهدي» نهاية أبريل الماضى للرياض، نقطة تحول فى تاريخ العلاقات العراقية السعودية التى شهدت توترًا منذ عام 1990. واكتست هذه الزيارة أهميتها من الاتفاقيات التى تم توقيعها بين الجانبين؛ حيث وصل عددها إلى حوالى 13 اتفاقية فى مجالات الطاقة والنفط والاستثمار والزراعة، وذلك لأول مرة منذ عقود وقد ضم الوفد العراقى وزراء النفط، والمالية، والخارجية، والتخطيط والتجارة، والتعليم، والشباب والرياضة، والزراعة، والكهرباء والنقل، وعدد كبير من المحافظين وأعضاء مجلس النواب ورجال الأعمال. واعتبر «المهدي» نفسه أن زيارته للمملكة تمثل نقطة تحول بالنسبة للتعاون والتفاهم مستقبلًا بين البلدين. 2. توسيع نطاق التعاون الاقتصادي: شهدت الفترة الأخيرة نموًا هائلًا فى تطور العلاقات الاقتصادية بين الرياضوبغداد؛ حيث اشتملت الاتفاقيات الموقعة بين الجانبين على وضع برامج عمل للربط الكهربائي، وكذلك الربط البرى والبحري، والتعاون فى القطاع النفطي، وتوقيع العديد من مذكرات التفاهم فى مجال المشاورات السياسية، والتعاون فى مجالات الزراعة، والتعليم، والصناعة، والثروة المعدنية. فى السياق ذاته، تبرع الملك «سلمان بن عبدالعزيز» ببناء مدينة رياضية عالمية، وهو ما اعتبرته التحليلات السياسية أنه محاولة ناجحة من الرياض لبناء الثقة مع الشعب العراقى الذى خضع للخطابات الطائفية والتحريضية النابعة من طهران ضد المملكة خلال الفترات السابقة. 3. افتتاح معبر عرعر البري: تعمل السلطات السعودية والعراقية على إعادة تهيئة معبر عرعر الواصل بين الحدود البرية للبلدين لافتتاحه فى يونيو المقبل بعد إغلاقه لأكثر من 28 عامًا، وذلك بهدف زيادة حجم التبادل التجارى بينهما. وتعمل الرياض على أن يكون المعبر تجاريًا بنسبة 90٪، خاصة فيما يتعلق بالترويج لسلعها من المواد الغذائية والكهربائية والإنشائية. وبهذه الخطوة، تصل المملكة إلى السوق العراقية مباشرة بعد ان كانت تعتمد على الأردنوالكويت لضمان وصول منتجاتها للسوق العراقي. ومن المتوقع أن يُسهم المعبر فى تحريك حركة التجارة بين الجانبين، لا سيما فى محافظة الأنبار العراقية، وذلك من خلال توفير الآلاف من فرص العمل المباشرة وغير المباشرة. 4. تيسير الحج، وزيارة العتبات المقدسة: عملت كل من الرياضوبغداد على تطبيع علاقاتها الدبلوماسية من خلال تبادل افتتاح السفارات والقنصليات لأول مرة منذ غزو الكويت. وتعتزم الرياض افتتاح 3 قنصليات جديدة بالمدن العراقية بعد افتتاح قنصليتها فى بغداد أواخر أبريل 2019. واعتبر الجانب العراقى أن تبادل افتتاح البعثات الدبلوماسية والقنصلية يُسهم فى تسهيل خدمات الأفراد والشركات بين البلدين، بما فى ذلك التيسير على مواطنى الدولتين الراغبين فى الحج والعمرة، أو زيارة العتبات المقدسة. ويعمل العراق فى الوقت الحالى على افتتاح قنصلية بالدمام بالمنطقة الشرقية، لتسهيل زيارة العتبات المقدسة على المواطنين السعوديين الشيعة الذين يرغبون فى الزيارات الدينية للعراق. ختامًا؛ تهدف الرياض من خطوات التقارب مع بغداد على العمل لمحاصرة النفوذ الإيرانى فى المنطقة؛ حيث استغلت طهران مراحل الضعف العربى لبسط نفوذها فى صنعاء، ودمشق، وبيروت، وبغداد، وهو ما تعمل على مواجهته الرياض فى الوقت الحالى من خلال «عاصفة الحزم» فى اليمن، وتبادل الزيارات والعلاقات الدبلوماسية مع العراق بهدف إعادتها إلى محيطها العربى والخليجي.