رغم صدور حكم القضاء الإداري، بوقف انتخابات مجلس النواب التي كانت مقررة في الشهر المقبل، ووقف تنفيذ قرارات رئيس الجمهورية بشأن دعوة المواطنين للانتخاب، تتواتر في الحاضر عبارة “,”الصندوق هو الحل“,” كشعار تكرس له دوائر جماعة الإخوان المسلمين وذراعها السياسية حزب الحرية والعدالة، وتعني أن كافة المشكلات التي تواجهها مصر، سواء ما يتصل منها بإيجاد نوع من التوازن بين مؤسسات الرئاسة والحكومة البرلمانية والمعارضة، أو بإنقاذ الاقتصاد المتعثر من الاضطرابات، أو في ظل حالة التوتر التي تجتاح المدن المصرية، سوف تجد هذه المشكلات وغيرها طريقها إلى الحل مع استكمال البناء الديمقراطي، المتمثل في الذهاب إلى انتخابات برلمانية قريبة، يتم فيها تشكيل مجلس النواب، وساعتها سيتكفل هذا المجلس بوضع حدّ للتقاطب السياسي والمأزم الاقتصادي والانفلات الأمني. على أن هناك من ارتأى في رفع هذا الشعار محاولة من النظام الحاكم لتحقيق مزيد من تمكينه، استكمالاً لمحاولاته الدائبة في اختراق القضاء والإعلام والمجتمع المدني، في ظل عدم توافر قواعد عادلة للعملية السياسية. وبيئة مجتمعية مواتية، وأرضية دستورية سليمة، وهو ما حدا بغالب القوى الليبرالية واليسارية أن تتخذ قرارها بمقاطعة هذه الانتخابات، قبل إعلان حكم القضاء الإداري. وتشير النظرة الفاحصة بأن النخبة الحاكمة تصوّب في العمق نحو محاولة تحقيق نظام مواكب للعصر من ناحية الشكل، وفارغ من حيث المضمون.. مثال ذلك، نظرته إلى البناء الديمقراطي، لا كبناء تحكمه التعددية والبرامجية واستقلال السلطات، بل تسوده الحداثة المبتسرة والولاءات الشخصية والمعارضة المستأنسة، ويلخصه اختزال الإدراءات الديمقراطية في صندوق الاقتراع. وتتولى النخبة تحقيق هذا الهدف، عن طريق تصعيد الصراعات السياسية باستخدام آلية الإقصاء بين الأطراف لا المشاركة، والانتقاص من قدرة الأطراف السياسية الأخرى على إدارة الشأن العام، واختراق المجتمع المدني بتحويل مؤسساته كالنقابات والاتحادات والجمعيات إلى تنظيمات تضامنية تعمل بوصفها امتدادًا لأجهزة الدولة. يضاف إلى تلك الآليات، الاستعانة بالقوتين الخشنة والناعمة، تقوم القوى الأولى على تعظيم استخدام اليد الباطشة للأجهزة الأمنية في التصدي للمشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بما يتضمنه ذلك من ممارسة العنف المفرط، وزيادة انتهاكات حقوق الإنسان خلال التظاهرات والاعتصامات وحالات العصيان المدني، وتغييب الاستقرار المجتمعي والشعور بالأمن، وتحويل جزء من الدخل القومي إلى الإنفاق على الأجهزة القمعية، مع العمل على تزوير قاعدة بيانات الناخبين، والتدخل في إعادة هيكلة وزارة الداخلية بما يخدم أهداف جماعة الإخوان المسلمين، وإن بدا تراوح انتماء فصائل من الداخلية مؤخرًا بين الدولة والجماعة، في ظروف اتساع رقعة تمرد قوات من الأمن المركزي وأمناء الشرطة. وتسعى القوة الثانية الناعمة إلى السيطرة على التعليم، باعتباره أهم آليات صياغة المستقبل، عبر التنادي بفصل البنين عن البنات في المدارس، وإدارة اليوم الدراسي تبعًا لمواقيت الصلاة، والعمل على إلزام الطالبات بشروط “,”الزيّ الشرعي“,”، وتأخير تدريس اللغات الأجنبية، وطرح أفكار حول تعديل الثانوية العامة لأهداف سياسية، وتعيين مستشارين وفنيين يرتبطون بأواصر القربى والمصاهرة للأعضاء الكبار في جماعة الإخوان المسلمين، وعقد بروتوكول بين وزارة التعليم وحزب الحرية والعدالة.. يحدث هذا في ظروف مشكلات مزمنة من تدهور الكفاءة والجودة، وتخلف المقررات والمناهج، وانخفاض الميزانية، وانهيار نقابة المعلمين وعجزها عن القيام بأي دور للنهوض بالعملية التعليمية. والأمر هنا يتعلق بأن الحالة المصرية الراهنة، وبهذه الكيفية، تلوح كمختبر لتجريب كافة الوسائل الخشنة والناعمة، يزيد من عتامتها قواعد غير عادلة للممارسة السياسية، وبيئة مجتمعية حبْلى بالعنف والصراع، وسقوط لهيبة الدولة، وتفاقم للأزمة الاقتصادية. ولعل تواتر هذه الأوضاع، قد حدت بالباحث “,”المختلف“,” نبيل عبدالفتاح، وعبر صفحات كتابه الأخير “,”النخبة والثورة“,”، أن يتساءل: هل نكون إزاء ما يمكن أن يطلق عليه النموذج المصري؟ هل يصحّ هذا الوصف؟ أم لايزال الأمر يحتاج إلى التريّث والحذر والوقت لإطلاقه؟ أم سيكون تعبيرًا عن بعض النماذج الإسلامية السابقة؟ وأي منها على وجه التحديد، أم خليط بين بعض مكوناتها مع بعض العناصر الدينية والسياسية والخبرة المصرية؟ وفي الظن أن هذه الحالة المصرية أقرب إلى ما يطلق عليه من أدبيات العلوم السياسية “,”الباتريمونيالية الجديدة“,”، وتعني النزعة السلطانية، كنظام سياسي يشبه ما ساد في العصور الوسطى الإسلامية، ويرتبط بالغنيمة وثقافة “,”التكويش“,”، على معنى التعامل مع الدولة وكأنها ملكية خاصة أو غنيمة حرب، وهو ما يوحي باقترابها مما أطلق عليه عالم الاجتماع الكويتي الراحل خلدون النقيب “,”الدولة التسلطية“,”، تلك الدولة التي تسعى إلى الاحتكار الفعلي لمصادر القوة والسلطة في المجتمع لمصلحة النخبة الحاكمة. من هنا.. فإن الخروج من المأزق يتطلب في الأساس العمل على تغيير هذا النظام السياسي الباتريمونيالي الجديد، ودون ذلك ليس ثمة بدايات لمسار تشكيل دولة ديمقراطية، ومجتمع مدني، أو استحقاق سياسي، ما يشي بأنه، وفي غيبة ثقافة دستورية، وسياسة ثقافية ضّالة متوازنة ونقدية، ولن تلعب صناديق الانتخاب سوى أدوارًا كارثية، في دعم التراجعات عن الديمقراطية، أو تكريس الرؤية الأصولية للمجتمع، أو الدفع بالآلاف من المواطنين نحو مواقع العنف والعصيان، أو تكريس القسمة بين النخب الأصولية والليبرالية. وقديمًا قيل لأبي تمام: لماذا لا تقول ما يُفهم؟ فأجاب: ولماذا لا يُفهم ما يقال؟.