دشن الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، جملة من الانعكاسات والنتائج السلبية السياسية والاقتصادية والأمنية، ليس فقط على القارة الأوروبية، وإنما على القارة الأفريقية والآسيوية، بل والأمريكيتين واستراليا، بحكم العلاقات الدولية المتشابكة والمعقدة، وحمل في جنباته الكثير من الآثار على دول مجلس التعاون الخليجي بحكم العلاقات التاريخية والمتجذرة بين الطرفين. فالعلاقات بين بريطانيا ودول الخليج تاريخية ومتعددة اقتصاديًا وأمنيًا، ولا شك أن الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي قد أضعفها اقتصاديًا وزعزع الثقة في المركز المالي للندن، وهو ما انعكس مباشرة في أسواق المال والبورصات العالمية، وبالتالي أضعف ثقة المستثمرين الخليجيين في قدرة الأسواق البريطانية على منحهم المكاسب المالية المرجوة. مؤشرات قوية للعلاقات وحتى يمكن استقراء مستقبل العلاقات الاقتصادية بين الجانبين، لابد من قراءة واقع العلاقات الاقتصادية بين بريطانيا ودول الخليج، إذ يمكن الوقوف على ملامح العلاقات الاقتصادية بين المملكة المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي، من خلال مؤشرين مهمين: المؤشر الأول: حجم التبادل التجاري: ترتبط دول مجلس التعاون الخليجي بعلاقات تجارية وثيقة مع المملكة المتحدة التي تعتبر ثاني أكبر شريك تجاري داخل الاتحاد الأوروبي، بعد ألمانيا، لدول الخليج. وطبقًا لبيانات هيئة التجارة والاستثمار البريطانية، فقد بلغ إجمالي حجم التجارة الثنائية للسلع بين بريطانيا ودول مجلس التعاون الخليجي في عام 2014 ما يقرب من 22.1 مليار جنيه استرليني (نحو 33 مليار دولار). ووصلت قيمة واردات المملكة المتحدة من دول الخليج، خلال عام 2014، إلى أكثر من 8.5 مليار جنيه استرليني، بينما تخطت قيمة الصادرات البريطانية إلى الخليج نحو 13.6 مليار جنيه استرليني. وتأتي الإمارات العربية المتحدة في مقدمة دول الخليج من حيث حجم علاقاتها التجارية مع بريطانيا، تليها الكويتوالبحرينوعمان وقطر والسعودية. .. المؤشر الثاني: الاستثمارات الخليجية في بريطانيا: فثمة عوامل عديدة شجعت المستثمرين الخليجيين على توجيه بوصلة استثماراتهم خلال السنوات الأخيرة نحو أوروبا، وتحديدًا بريطانيا، ومن أولى هذه العوامل: فرض الولاياتالمتحدة قيودًا صارمة، بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، على حركة الأموال الأجنبية، خصوصًا العربية، وتجميد كثير من حسابات الأجانب في البنوك الأمريكية، وتشديد الإجراءات على حرية السفر ودخول الأفراد إلى هذا البلد. وثانيها: تمتع بريطانيا بمناخ استثماري جيد وآمن وعائدات كبيرة، كما أنها أكثر ترحيبًا بالاستثمارات الخليجية، خاصةً في مجال العقارات. وأخيرًا، فإن الاضطرابات وحالة عدم الاستقرار التي تعانيها منطقة الشرق الأوسط خاصةً بعد ثورات الربيع العربي منذ عام 2011، ثم تراجع أسعار النفط منذ منتصف عام 2014، دفعت المستثمرين الخليجيين إلى التوجه نحو الخارج، بحثًا عن وجهات استثمار آمنة وعائدات مالية كبيرة. ويٌقدر إجمالي الاستثمارات الخليجية في بريطانيا بأكثر من 130 مليار دولار، طبقًا لبعض الإحصائيات، وتركزت هذه الاستثمارات في مجال النشاط العقاري، حيث جاء المستثمرون الكويتيونوالإماراتيون والقطريون في الطليعة بشرائهم عقارات بريطانية بقيمة 5.9 مليار جنيه استرليني على الأقل خلال عام 2015، مقارنةً بنحو 4.8 مليار جنيه استرليني في عام 2014، وفقًا لشركة "سافيلز" الدولية للاستشارات العقارية في بريطانيا. ومن جانب آخر، يسعى المسئولون في المملكة المتحدة إلى تعزيز الخدمات المالية، بما فيها التمويل الإسلامي، في دول الخليج العربية ومساعداتها على تنويع اقتصاداتها، وجذب المزيد من الاستثمارات الخليجية واستثمارات صناديق الثروة السيادية إلى المملكة المتحدة، خاصةً في مشروعات البنية التحتية والطاقة، والمحافظة على دور لندن كوجهة مُفضلة للاستثمارات الخليجية. وقد انعكس ذلك في زيارات العمل المتبادلة، ومنها الزيارة التي ضمت وفودًا من رجال الأعمال، وعلى رأسها عمدة الحي المالي في مدينة لندن إلى الكويت والمملكة العربية السعودية والإماراتوالبحرين خلال الفترة من 16- 27 يناير 2016، وتضمنت مقابلات مع الوزراء والمسؤولين في أجهزة صناديق الثروة السيادية الخليجية المختلفة وموانئ دبي العالمية، وأيضًا زيارة عمدة الحي المالي في مدينة لندن إلى البحرين وسلطنة عُمان في الفترة من 23- 29 مارس الماضي. تفاؤل خليجي بالمستقبل رغم الهزات الاقتصادية التي تعرضت لها معظم البورصات المالية في العالم جراء الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي، إلا أن دول الخليج لديها تفاؤل بشأن مستقبل اقتصادي قوي في العلاقة مع بريطانيا، خاصة أن أصول الصناديق السيادية للدول الخليجية كبيرة في بريطانيا سواء في الأوراق المالية أو العملات والسندات والعقار والسياحة أوغيرها من القطاعات الاقتصادية الأخرى، وتصل في حدود 5 تريليونات دولار، قد تعرضت لخسائر تتراوح ما بين 600 و700 مليار دولار أمريكي خلال ال48 ساعة التي أعقبت قرار الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي. وبالرغم من تعرض الصناديق السيادية والاستثمارات الخليجية في بريطانيا إلى هذه الهزات كسائر الاستثمارات الأخرى منذ أن تم الإعلان عن انسحاب بريطانيا عن المنظومة الأوروبية، إلا أن مراقبين يشيرون إلى أن فرصا واعدة تنتظر دول مجلس التعاون التي ستكون الرابح الأكبر عقب استقرار الوضع في بريطانيا والاتحاد الأوروبي، لتعوض بذلك التراجع الذي أصاب القطاع الخاص الخليجي من جراء ذلك. وفي الوقت الحالي، فإن أسواق بريطانيا تسودها حالة الهلع والقلق بشأن مستقبل علاقتها مع الاتحاد الأوروبي وتأثيراتها على الاقتصاد. وهذا ما يدفع المستثمرين الخليجيين الكبار للبحث عن فرص استثمارية جديدة في هذا البلد، في ظل الأزمة التي يمكن أن تتيح فرصًا أخرى ومن نوع جديد في بريطانيا، تكون جاذبة للاستثمارات الخليجية والعالمية. فما زال المستثمر الخليجي يرى أن بريطانيا ستظل جاذبة للاستثمارات الأجنبية، وإن خروجها من الاتحاد الأوروبي سوف يعمل على إيجاد فرص جديدة، وأن بريطانيا تعتبر مركزًا عملاقًا ومهمًا للاستثمارات الخليجية، سواء لاستثمارات الأفراد أو الشركات الخاصة أو صناديق الاستثمارات السيادية. ويؤكد بعض مسئولي الشركات الخليجية الاستثمارية في بريطانيا أنها بدأت في البحث عن فرص استثمارية جديدة ودراسة شراء مزيد من الأصول فور قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي، معتبرين أن لندن ستظل مركزا ماليا مهما رغم قرار المغادرة. فمثلا أدى الهبوط الحاد للجنيه الاسترليني إلى زيادة الطلب على هذه العملة في دول الخليج، وأثار شهية الكثير من المستثمرين لاقتناء هذه العملة وفق طلبات الأشخاص المحليين والوافدين وشركات الصرافة العاملة في مجال بيع وشراء العملات، مستغلين هبوط سعر هذه العملة الذي لم يتوقف حتى اليوم. وبالنسبة لبعض المكاسب الأخرى التي ربما ستجنيها دول المجلس في بريطانيا نتيجة الخروج من الاتحاد الأوروبي تتعلق بالوضع العقاري في بريطانيا، حيث تتوقع بعض المصادر بأن تنخفض العقارات بنسبة قد تصل إلى 20%، الأمر الذي سيؤدي إلى تعثر عدد من الشركات، وبالتالي ستكون هناك فرص استثمارية ضخمة سواء للحكومات الخليجية أو المستثمرين الخليجيين في هذا القطاع، ويمكن من خلال ذلك تعويض الخسائر المحتملة في عدد من القطاعات الاقتصادية مستقبلا.