كنت قد اعتدت أن أتناول وجبة الغداء فى أحد المطاعم العربية أثناء إقامتى بإحدى الدول العربية، وكنت أرى خارج المطعم عند الباب سائلًا من مواطنى تلك الدولة الغنية، يسأل الناس أن يعطوه بعض المال. وبينما كان الشحاذ ذات يوم يسألنى أن أعطيه بعض المال قلت له بابتسام: ما رأيك فى أن تتناول معى الغداء؟! فتردد للحظة ثم قبل الدعوة. حول مائدة جلسنا، وطلبتُ وجبتين لنا، فأتانا النادل بالطعام، ولما صار أمام ضيفى ذات الأصناف التى أمامى دعوته للشروع فى تناول وجبته وبدأتُ أتناول وجبتى، فلاحظتُ أنه أخرج على استحياء كيسًا بلاستيكيًا من جيبه، وأخذ برفق يضع فيه طعامه! فابتسمت وقلت فى نفسي: لا بأس، ثم طلبتُ وجبة أخرى، فلما أتى بها النادل طلبتُ منه أن يضعها أمام ضيفى وقلت له: أرجو أن تتناول هذه الوجبة معى.. فما كان منه آنذاك إلا أن تناول منها لقيمات، ثم فتح برفق مرة أخرى كيسه، وأخذ يضع فيه ما فى أطباقه! وبينما كان يفعل ذلك أمامى تذكرتُ ما رأيته يومًا فى ميناء جيدينيا البولندى.. رأيت طيور نورس كثيرة ترفرف كلها بصورة جميلة أمام أعداد من الناس كبيرة تقف على شاطئ البحر تحمل أكياسا فيها قطع صغيرة من الخبز. كان ذلك فى فصل الشتاء والبحر مرتفعة أمواجه كالجبال، وكان الناس منكمشين تحت ملابسهم بسبب شدة البرد، ويلقون بأيديهم فى اتجاه البحر حيث يرفرف لهم الطير قطعَ الخبز، فتلتقطها الطيور الجائعة بمناقيرها قبل أن تسقط فى البحر تحتها، وإن حدث أن عَجَزَ طائر منها عن أن يلتقط قطعة ينجح فى التقاطها الطائر الذى تحته أو الذى فوقه، وكانت تلك الطيور تصيح بصوت مثير لتستحث الناس المحسنين على إلقاء المزيد، وكان يبدو للجميع أنها فى حالة جوع شديد. ومن الطريف أن بعض الأطفال الواقفين سلكوا مسلك المهاجمين فى مباراة كرة جعلوا فيها طيور النورس حراسًا للمرمى، فكانوا يقذفون بأيديهم الخبز بكل قوة بعيدًا عن مناقير تلك الطيور الجائعة التى كانت تطير إلى اليسار أو إلى اليمين أو إلى فوق أو إلى تحت كعصام الحضرى لتلتقط الخبز! وكان بعض حاملى قطع الخبز يخصون طائراًً بعينه بالخبز الذى يلقونه، وكان الطائر إن شبع استدار ورجع وابتعد وارتفع، وفى الفضاء سبح برفق كأنه يناجى الله عز وجل شاكرًا إياه على الرزق. ولم أجد طائرًا واحدًا من تلك الطيور معه كيس كالذى يحمله الضيف ليُخزِّن فيه من بعد أن يشبع قطع الخبز! ولم أجد طائرًا منها واحدًا استدار راجعًا بعدما شبع وهو يحمل بمنقاره قطعة خبز واحدة. بعدما انتهى عرضُ فيديو طيور النورس فى يوتيوب عقلى.. عدتُ أفكر فى أمر ضيفى وقلت فى نفسي: هو ولا ريب إما شبعان أو أنه تجاه يومه وغده لا يشعر بأمان، وتلك آفة الإنسان منذ خلق آدم حتى الآن.