شعر بعض العاملين بالحزن نتيجة غياب شخصية فذة ساهمت فى تطوير الموارد البشرية، بينما فرح آخرون ممن اعتبروا أنفسهم ضحايا عمليات التطوير التى قام بها «عامر» خلال عمله فى بنك البنوك. لم تمض ساعات على إعلان الخبر، إلا ووجد جميع موظفى البنك المركزى، سواء الصغار أو الكبار، رسالة قصيرة على بريدهم الإلكترونى مُرسلة من «إيميل» طارق عامر نفسه يقول فيها بالإنجليزية عبارة I'll return back again أى «سأعود مرة أخرى». ولم يجد موظفو البنك تفسيرا للإيميل سوى أن طموح الرجل يصل به إلى منصب محافظ البنك المركزى. دارت الأيام دورتها وتحققت رسالة «عامر» التى تسلمها جميع العاملين بالبنك المركزى على إيميلاتهم الشخصية. ولاشك أن قدوم الرجل فى هذا التوقيت العصيب يعنى أنه قَبِلَ تحديا بالغ الصعوبة لتحقيق حلم حياته فى الجلوس على مقعد كبير المصرفيين وحاكمهم، وواضع السياسة النقدية لبلد كبير بحجم مصر. رُبما لا يعرف كثيرون أن منصب محافظ البنك المركزى هو ثانى أهم منصب فى مصر بعد منصب رئيس الجمهورية، وفى بعض الدول تتجاوز قيمة وأهمية محافظ البنك المركزى قيمة رئيس الجمهورية نفسه، وقد اتضح ذلك فى الولاياتالمتحدة خلال أزمة الرهن العقارى الكبرى. فى العمل المصرفى فى مصر هناك حديث دائم عن مدرستين تقليديتين هما الإنجليزية والأمريكية، الأولى عتيدة تُقر مبدأ الأقدمية وتتعامل مع الأسواق وفق معايير ومقاييس تقليدية، أما الثانية فحادة التغيرات وسريعة التحولات ولا تهتم بالأقدمية لأنها تبحث عن الكفاءة فقط وتعمل على التطوير والتغيير المُستمر ولا تحتكم سوى للنتائج. وطارق عامر ابن أصيل للمدرسة الأمريكية فى العمل المصرفى حيث تشكلت خبراته الرئيسية فى بنوك أمريكية أبرزها بنك أوف أميركا، وسيتى جروب، ورُبما هذا ما جعله يدخل فى صدامات عنيفة مع موظفى البنك الأهلى المصرى عندما تولى رئاسته وأصر على تطوير الموارد البشرية والاستعانة بخبرات متميزة بخلاف الموظفين القائمين. لقد عمل «عامر» فى بنك أوف أميركا ومنه انتقل إلى سيتى بنك ليدير مشروعاته فى منطقة الخليج، قبل أن يترأس البنك المصرى الأمريكى ثُم يستجيب لدعوة صديقه القديم الدكتور فاروق العقدة للعمل معه فى البنك المركزى كنائب له فى الفترة من 2003 إلى 2008، ثم ترأس مجلس إدارة البنك الأهلى لخمس سنوات، قبل أن يقدم استقالته فى يناير 2013 احتجاجا على تطبيق حكومة هشام قنديل التابعة لجماعة الإخوان الحد الأقصى للأجور على القطاع المصرفى ليتولى منصب العضو المنتدب للبنك الأهلى فى لندن. السيرة المعروفة للرجل تؤكد بعض ملامح شخصيته كرجل قوى، متفائل، يقبل التحديات، ويدخل المعارك دون وجل أو تردد، رافضا أنصاف الحلول أو التدرج أو السكوت على ما يعتبره خللا إداريا. وهو مُنفتح بقوة على العالم الخارجى، دارس بعمق تجارب دول أخرى وبنوك ومؤسسات متنوعة بما يجعله طارحًا للحلول والسيناريوهات الجديدة. وما قرأه الناس قبل سنوات من إصرار الرجل على إعادة فتح ملف مصرع عمه المشير عبد الحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة فى حرب 1967، جازمًا أن عمه قُتل ولم ينتحر، يدلل على جرأة الرجل واحتفاظه بواحدة من سمات أهل الصعيد المتوارثة وهى عدم نسيان الثأر ولو مر عليه عقود من الزمن. لقد وصل الأمر به أن قدم إلى بعض الصحف مستندات تُثبت وضع السم لعمه بعد هزيمة يونيو سنة 1967. إننا أمام شخصية مُقتحمة تعرف ما تريد، وتعشق التعامل مع المشكلات العويصة على حد تعبير المصرفى جمال محرم الذى عمل مع الرجل فى أمريكا ويعتبره نموذجا جيدا للمصرفيين المصريين. وفى مثل هذا التوقيت فإن اختيار الرجل كان الأنسب ليخلف هشام رامز فى منصب محافظ بنك البنوك، فهشام رامز على الرغم من الجهد الذى قدمه فإنه لم يعد لديه حلول جديدة للسيطرة على جنون الدولار. لقد قال «رامز» هذا الكلام للصحفيين قبل ستة شهور وكان يعتبر الأزمة غير قابلة للحل، لأنه استخدم كل الوسائل التى تعلمها ولم تؤتِ ثمارها. وفى تصوره فإن السياسة النقدية وحدها لا يمكنها مهما أوتيت من قدرات ومهما حملت من خبرات أن تحسم أزمة الدولار لأن هناك سياسات أخرى تساهم فى الأزمة مثل التجارة الخارجية والمالية. وقد تسربت رغبة «رامز» فى الاستقالة قبل بضعة أسابيع، خاصة بعد أن قدم مستوردون ورجال أعمال شكاوى عديدة ضده إلى رئاسة الجمهورية. يبدو أن «رامز» الأقرب للهدوء والحكمة قد ضاق ذرعا بهجوم رجال الأعمال عليه، وهو ما دفعه إلى إبداء الرغبة فى ترك منصبه مع مجلس إدارة البنك المركزى فى نهاية نوفمبر القادم بدلًا من فبراير 2017. المهم أن السؤال الذى كان يُطرح وقتها بمَن يخلفه لم يكن يجد من الاقتصاديين وخبراء الاستثمار سوى إجابة وحيدة هى طارق عامر، نظرا للتجربة التى حققها فى البنك الأهلى. لقد شهد البنك الأهلى طفرة فى عهد «عامر» بعد سد فجوة المخصصات المجنبة لمواجهة الديون المتعثرة والتى كانت تتجاوز 10 مليارات جنيه، قبل أن يقفز بأرباح البنك الصافية من 300 مليون جنيه فى يونيو 2008 إلى 2.8 مليار جنيه فى يونيو 2012، وحقق البنك أرباحا صافية تجاوزت مليارى جنيه فى النصف الثانى من عام 2012. من هُنا سادت حالة من التفاؤل جموع الاقتصاديين بعد الإعلان عن تولى طارق عامر منصب محافظ البنك المركزى، فهو بُحكم إصراره وميله إلى الحلول غير التقليدية وتركيزه على الاستعانة بالتجارب الدولية مؤهل للعبور بالجهاز المصرفى المصرى إلى بر الأمان وتجاوز أزمة نقص العملة والقضاء على السوق السوداء للدولار.