حلم الهجرة إلى أرض «الصهاينة» يسيطر على عقول الشباب وأعلام إسرائيل الأكثر انتشارا في أكرا الغانيون يشيعون الموتى ب«الطبل والغناء» ويرتدون «الأحمر» الجلباب الأبيض الزي الرسمي ل«العريس» و«لمّ النقطة» في «طبق» القطارات في المحافظات والسيارات وسيلة الانتقال الوحيدة كانت المرة الأولى لطيرانى خارج الحدود المصرية، كنت متحمسة.. أحب الأراضى السمراء، تستهوينى الابتسامات ناصعة البياض والقلوب الطاهرة، والمهمة فى حد ذاتها مختلفة ومميزة، التطوع لمساعدة الأطفال الغانيين وتعليمهم أمورا لم يسمعوا عنها من قبل. أنا سأشكل وجدان وفكر أطفال ربما لن أراهم مرة أخرى أبداً.. أرسل لى صديق عشية سفرى رسالة يقول فيها: «اليوم سيبدأ العد التصاعدى لما ستغرسينه فى نفوس صغيرة بيضاء داخل أجسام سمراء، اليوم سيبدأ العد التصاعدى لقراءة ومشاهدة ما ستنقلينه عن حياة الغانيين، حراس الغابات، وبائعى الموز المقلى ومروضى القرود، والمدرسين الحالمين بغد أفضل فى البلد الحار»، وبالفعل قد كان. عشت ثلاثين يوماً لن أنساها ما حييت، نقشت تفاصيلها فى ذاكرتى إلى آخر أيام عمرى، أنقلها وأحكى عنها. حكايات رأيتها وعشتها، سأروى بعضها فى محاولة لرسم صورة عن بلد لا نسمع عنه سوى فى مباريات كرة القدم، ولكنه بالفعل عالم آخر يشبهنا قليلاً ويختلف عنا كثيرا، جزء من إفريقيا القارة الأم والشعوب الطيبة. كانت رحلتى فى غانا أشبه بحياة المحليين سكان البلد، لم أعامل أبداً على أننى سائحة أو غريبة، حاولت العيش كما يحيا أهل البلد وسكانها، وساعدنى فى ذلك وجودى مع عائلة غانية رافقتنى طوال مدة مكوثى هناك. كانت أسرة صغيرة تتكون من «الفريد» وزوجته «مارجريت» وأطفالهما التسعة، طفل شرعى وحيد وثمانية أطفال بالتبنى، استعجبت عندما علمت بهذا خاصة أن الفقر هو السمة السائدة فى المجتمع. بيتهما بسيط لا مكان فيه لاستيعاب هذا العدد، ولكنهما سعداء بذلك ويتحملانه. حكى لى «الفريد» أنه أنهى تعليمه الجامعى بالعاصمة، ثم اتخذ قراراً أن يعود لقريته هو وزوجته ووالده، يؤسسون مدرسة مخصصة للأيتام والفقراء، ويتبنون غير القادرين منهم، مع السماح لهم بزيارة لأهلهم مرة كل عدة أشهر. لم أعرف الكثير عن الرجل الأسمر، ولكن فكرة تبنى هذا العدد من الأطفال وهو لا يملك المال الكافى لهم أبهرتنى. كما أن زوجته «مارجريت» تتكفل بإطعام أطفال المدرسة وتحضير «الفشار» لهم فى أكياس صغيرة حتى يحبوا التعليم ولا يتركونا المدرسة. «داستين»، ابن «الفريد» الشرعى، وصديقى ذو الأربع سنوات، هو البطل فى هذه الأسرة. يتحدث الطفل الأسمر اللغتين المحلية والإنجليزية بطلاقة، ويحفظ بعض الكلمات الفرنسية والعربية والإسبانية التى تعلمها من الأجانب الوافدين على بيته للتطوع فى المدرسة. أتذكر يوم وصولنا لغانا ورؤيته للمرة الأولى، كيف قفز وتعلق برجل أحد أصدقائى وهو يضحك. أما طريقته المفضلة فى تحية الغرباء هى أن يلاعب حاجبيه، وتضحك عيناه. هذان العينان اللتان كانتا دائما تخبراننى أنه لديه مستقبل مختلف عن كل أبناء بلده، فالحكايات التى خاضها منذ نعومة أظفاره والجنسيات المختلفة التى عاشرها أسهمت فى تشكيل وجدانه، وستصنع منه شخصا مميزا. ينسى «داستين» الأسماء بسهولة، ولكن بعد صداقة استمرت شهراً حفظ اسمى، وكان يبتسم عندما يرانى ويتذكرنى فأضحك ويضحك وأحتضنه. أما عن بقية الأطفال بالتبني فهم يساعدون فى تنظيف البيت وخدمة الأجانب وتنظيم المدرسة بنفس راضية ووجه مبتسم، يحبون عملهم ويشعرون بالفخر للقيام به. مع بداية الأسبوع الثانى، حان وقت العمل، ذهبت للمدرسة التى أسسها «الفريد» للمساعدة بها. فور دخولى من البوابة وجدت الأطفال يقفون فى طابور يرددون النشيد الوطنى لبلادهم باحترام وهيبة شديدة. انتهوا وساروا فى صفوف لفصولهم وهم ينظرون لى ولأصدقائى ويقولون «تعالوا درسوا لنا»، يتعلقون بنا ويمسكون بأيدينا ويجذبوننا نحو الفصل. اخترت أن أتحدث مع الأطفال فى سن الحضانة، سألتهم عن مصر، وصُدمت عندما علمت أنهم لا يعرفونها أو سمعوا عنها من قبل، بدأت فى التحدث عنها، وهم يستمعون باهتمام، ويخبروننى أنهم يريدون السفر يوماً إلى بلد الأهرامات. سألونى ماذا أعمل؟ أجبت «صحفية»، ولكنهم لم يعرفوا معناها، سألتهم هل رأوا صحفا أو مجلات من قبل؟ أجابوا بالنفى. أخبرتهم أنى أكتب موضوعات كتلك التى فى كتب المدرسة، هزوا رؤوسهم الصغيرة وصمتوا. أخبرتنى المعلمة بعد ذلك أن الصحف والمجلات موجودة فى العاصمة فقط. وجوه الأطفال السمراء تتحدث بحكايات يخفونها، لا يحلمون ولا يجرؤون على الحلم، فكل ما يتمنونه هو أن يتعلموا. حفظت أسماءهم الصعبة وكتبتها حتى لا أنساها. لم أعلم عن وجود أطفال بهذا الكم من البراءة والبؤس فى آن واحد قبل مجيئى هنا، لا يعلمون شيئاً عن الرسوم المتحركة التى يرتدون ملابس تحملها، أو عن الألعاب وأنواعها، ما يجيدونه بالفعل هما الغناء والرقص. أطلب منهم أغنية فيستجيب أحدهم بالغناء أولا ثم يتبعه الجميع، يصفقون على إيقاع متناسق ويرقصون ويتحركون بخفة ورشاقة وانتظام. أتذكر «مكافى» الراقصة الأولى فى الفصل، لا تستطيع كتمان موهبتها عندما تستمع لأى موسيقى، تحرك يديها وجسدها بتناغم شديد، الرقص الإفريقى ممتع ومبهج بحق. الأطفال الغانيون ودودون جدا، يذهبون لأى غريب ويحضنونه، يبتسمون ويضحكون خاصة عند رؤية الكاميرا أو الموبايل فى يد أحدهم، يقفزون أمام العدسة وهم يصيحون «صورة.. صورة» وبعد الانتهاء يصيحون مرة أخرى «دعنى أرى.. دعنى أرى»، فالأجهزة الحديثة جاذبة لهم ولا يرونها إلا مع الأجانب. أما فى وقت الفسحة، ألعابهم تشبه الألعاب البدائية فى القرى المصرية، يقفون فى صفوف ويتقافزون بطريقة محددة تحدد من الفائز والخاسر، يرسمون رسومات على الأرض بالطباشير، أو يلعبون كرة القدم، ولكن حتى الكرة لها طريقة خاصة فى غانا، عنيفة أكثر كطبع أصحاب البشرة السمراء، وإذا قال الحكم «ضربة جزاء» فلابد لحارس المرمى أن يصدها وهو يقف على رجل واحدة ولا يستخدم يده، لم يتقن أى أجنبى هذه الطريقة فى اللعب، ولكن هم اعتادوها. فى نهاية اليوم أعطتنى «أنطوانيت» الفتاة الصغيرة ذات الوجه الدائرى «20 بيسو» أى «20 قرشا» التى أعطتها لها أمها كمصروف، هدية لى، أصرت أن أحتفظ بها حتى لا أنساها، أبهرتنى قدرتها على العطاء على الرغم من أنها لا تملك غيرها، ولكنى لم أملك إلا احتضانها والاستجابة لها. بعد مرور أسبوع العمل، كان الوقت قد حان لاكتشاف المحافظات البعيدة. لا قطارات فى غانا، لم يصل إليهم هذا الاختراع بعد، وسيلة المواصلات الوحيدة هى السيارات، فاضطررت أن أستقل سيارة لمدة 7 ساعات حتى أصل للمنطقة الوسطى بالبلاد. ومن هناك ذهبت لحديقة كاكوم الوطنية، مساحة شاسعة بها عدد لا نهائى من أشجار الغابات. كانت التذكرة للطلاب أرخص من الخريجين، ولأننى لست طالبة أخبرت الحارس بذلك، فكان رده «سأعتبرك طالبة». لم أفهم مقصده حتى اكتشفت أنه أخذ رشوة إجبارية وأعطانى تذكرة للطلاب. حيوانات كثيرة تعيش بين الأشجار، أفيال وقرود وفراشات وحشرات مختلفة، كما أخبرتنا مرشدة الحديقة، لكننا لم نر أيا منها، فكما تقول هى تخاف من الزوار. صعدنا طريقا طويلا لأعلى حتى وصلنا للمقصد الحقيقى من وجودنا هنا «الجسور المعلقة». ثمانية جسور خشبية بطول 350 مترا، وعلى ارتفاع 40 مترا، تفصل بينها بيوت أعلى الأشجار للراحة قبل الانتقال للجسر التالى، محاطة بأسلاك شائكة تحمى السائر فوقها من السقوط لأسفل أو الانزلاق بين الأشجار. أخبرتنا «المرشدة» أن فى كل صباح تتم تجربة هذه الجسور والمشى عليها حرصاً على حياة السياح والزائرين، ولكن ذلك لم يمنعنى من الخوف وأنا أسير فوقها. وجود أكثر من 20 شخصا على الجسر الخشبى المعلق يجعله يهتز بقوة، لم أعرف ماذا سيحدث لى إذا سقطت، ربما سأعيش قصة فيلم أجنبى يستحق التصوير، فكما قال لى أحد أصدقائى «الجسور وظيفتها فى الأفلام هى السقوط»، بعد كثير من المتعة والخوف عبرت الجسور الثمانية بسلام، وحصلت على شهادة من الحديقة تفيد بخوضى للتجربة ونجاحى. فى طريقى لبوابات الخروج كانت هناك مجموعات من النمل تسير بين الأشجار، أخبرنا الحراس والسكان المحليون أننا لابد أن ننتظر حتى يمر النمل أو نعبر فوقه مع مراعاة عدم دهسه حتى لا يهاجمنا. الغانيون يحترمون جميع الكائنات مهما بلغ صغرها. المتعة التالية كانت الذهاب إلى «الأنفوشى الغانى»، بالطبع لم يكن اسمه كذلك، ولكنى أطلقت عليه هذا بسبب وجود قلعة تطل على البحر وإلى جوارها صناع المراكب والشباك وحلقة السمك، تماماً كما الإسكندرية. مراكب صيد كثيرة تحمل أعلام كل الدول والأندية الرياضية، للأسف لم أجد العلم المصرى بينها، أما العلم الإسرائيلى فكان موجودا وبكثرة، حتى أننى رأيته أثناء إقامتى أكثر من مرة يرتديه الشباب أو يزينون به عرباتهم. حلم الهجرة إلى إسرائيل يستحوذ على عقول الشباب الغانى، هى الدولة التى يصعب الوصول إليها أو الحصول على جنسيتها، لا يتمنون ذلك كيداً فى العرب أو كرها فى فلسطين، فهم لا يشغلون بالهم سوى بالعمل والمال الذى يعتقدون وجودهما بكثرة فى إسرائيل. فى حلقة السمك، أنواع مختلفة من الأسماك بكافة الأحجام، سيدات ورجال يتزاحمون أمام شاطئ المحيط الواسع يبيعون الأسماك ويشترونها. صراخ يأتى من الجهة الأخرى نذهب إليه فنجد سمكة عملاقة يخبرنى الصياد أنها قرش صغير يمكنه بيعه بمبلغ ضخم. أما القلعة فلها قصة أخرى، هى تسمى «الكايب كوست» بنيت فى الأساس من أجل تجارة «ساحل الذهب» كما كان يطلق على «غانا» وقت الاحتلال، ولكن مع مرور الوقت تحولت القلعة لمقر رئيسى لتجارة العبيد السود وتهجيرهم لأوروبا. لم تكن القلعة حصناً ضد الغرباء ولكنها كانت مقرا لتعذيب المحليين وقهرهم. على أبوابها الحصينة نُقش الأسد الأوروبى وعلم بريطانيا وأعلام السويد المحتلين والمتاجرين فى البشر. تغير تاريخ القلعة بعد إنهاء هذه التجارة، وباستقلال غانا أصبحت مقرا أثريا ومزاراً سياحياً. من هناك أطلقت اليونيسف سنة النضال ضد العبودية من مقر القلعة باعتبارها أحد أهم مقار الرقيق التاريخية فى العالم. لم يتغير الوضع فى محيط القلعة كثيرا عن أيام العبودية، فحولها عدد كبير من المتسولين والفقراء، يقفون أمام الأجانب وهم يشيرون إلى أفواههم ويقولون «طعام» باللغة الإنجليزية. يطالبوننا ب«سى دى واحد»، ينظرون لنا ويعتقدون أننا نحمل أموالاً كثيرة باعتبارنا أجانب، على الرغم من أن العملة الغانية تساوى 2 جنيه مصرى. لم أشاهد هذا القدر من المتسولين فى أى منطقة أخرى فى غانا سواء كانت سياحية أو غير سياحية، ولا أعلم سر تواجدهم وتجمعهم فى هذا المكان. أثناء دخولى لقلعة البحر تبعنى بعض الباعة الذين يعملون بالسياحة، يسألون عن اسمى وبلدى ويرحلون، ثم يأتون عند خروجى وهم يحملون قوقعة نقش عليها الاسم ويخبرونى أنى لابد أن أشتريها حتى لا يخسرون، طريقة جديدة ومبتكرة فى البيع للسياح، تذكرنى بحيل المصريين فى البيع. عدت لمكان سكنى هناك، حيث هدوء الطبيعة وجمالها، تأملت كثيراً فى اعتقادات الشعب الغانى وأفكاره، هذا الشعب متصالح مع الموت ولا يخافه. فبجوار منزلى تمثال لرجل عجوز اكتشفت بعد ذلك أنه قبره، وأمام الكنيسة دُفن أحد القساوسة القدامى، يجلس الأطفال فوق قبر القسيس يضحكون ويلعبون غير خائفين أو عابئين بحرمة الموت كما نفعل فى مصر. صانعو التوابيت موجودون فى كل مكان وعلى ناصية كل شارع، لا يزينون محلاتهم بالسواد كما يفعلون فى القاهرة، يجلسون أمام ألواحهم الخشبية يفصلون مقاسات مختلفة من صناديق الموتى المغلقة، وينتظرون موت أحدهم للبيع وكسب الرزق. عرفت من الأصدقاء أن للجنازات هنا طقوسا خاصة. فبعد الموت يستعد أهل الميت للاحتفال بانتقال فقيدهم للعالم الآخر. تابوت مغلق يُحمل على الأكتاف ويتجول أهل المتوفى والمعزون فى القرية وهم يرقصون ويغنون. أكثر ما يتقنه أهل البلد الغناء والرقص يقومون بهما فى الفرح والحزن والصلاة والتعبد والاحتفال. أما الملابس الرسمية فى الجنازات هى الأسود والأحمر. لا يأتى ذكر الجنازات دون ذكر الأفراح، لم يحالفنى الحظ بحضور فرح فى غانا، ولكنى علمت بعض المعلومات عنه من أصدقاء حضروه. يجلس العريس والعروس وهما يرتديان الثياب الرسمية الغانية، فستانا ملونا للعروس، وجلبابا أبيض للعريس مع قطعة قماش توضع على الأكتاف صُنعت من قماش العروس. غناء وأفراح فى الكنيسة، يليها فرح فى قاعة أو مكان مفتوح به العديد من الأغانى والرقصات الفلكلورية، ثم يأتى موعد «لم النقطة». يجلس العروسان وأمامهما أطباق بها مناديل، يقول المنادى رقم وليكن «10» فينهض كل من يريد أن يدفع «10» ويضع الفلوس فى الطبق ويأخذ منديلاً، ثم تتوالى الأرقام وتتزايد الأموال حتى تنتهى المناديل من أمام العريس والعروس. وعلى ذكر الأفراح، كان لى حظ لحضور تدريب جماعى على الرقص والغناء وسط أحد التجمعات السكنية تحضيراً لاحتفال سنوى كبير لأهالى القرية. سيدات ورجال من مختلف الأعمار يقفون فى نظام، وأمامهم يجلس شباب سُمر أمام طبولهم الضخمة، يقرعونها محدثين صوتا عاليا. الموسيقى الإفريقية هى عبارة عن آلات إيقاعية فقط، الطبول والناقوس وآلات أخرى لا أعلم اسمها تحدث صوتا عند تحريكها باليد. الكل يغنى فى تناغم وانسجام، سيدات عجائز تعدين الخمسين من عمرهن، وأمهات يحملن أطفالهن على ظهورهن، أطفال تركوا مدرستهم للغناء، ورجال فرغوا من عملهم مبكراً للحاق بالتدريب. مع بداية الغناء، تبدأ فى التحرك 5 سيدات ورجل واحد، يرقصون فى صفين متقابلين، حركات يحفظونها، ينظرون لبعضهم البعض ثم يقفزون أو يجلسون. الجميع يرقص ويغنى ويعزف بحيوية ونظام. أخبرنى قائد الجموع أنهم الفرقة المحلية للقرية، يذهبون للأفراح والجنازات إذا دعاهم أحد، ويسافرون فى مسابقات للعاصمة. يعلمون أولادهم الرقص والغناء منذ نعومة أظافرهم ويتوارثون حب الموسيقى والفن.