إعداد: أحمد صوان إشراف: سامح قاسم هي أشهر من ذابوا في العشق الإلهي، عبدت الله واستغنت عنه بالعالمين، دعته فاستجاب، وناجته فأغناها، قضت حياتها استعدادًا لمُقابلة خالقها، استبدلت الألحان بالقرآن، وتحملت البلاء من أجل غفران ربها، والتي كان سُفيان الثوري لا يستأنس إلا بصحبتها، ورفضت أن يُشاركها حياتها أحد سوى محبة الله،؛ هي رابعة العدوية التي أطلق عليها كثيرون "شهيدة العشق الإلهي". هي البصرية بنت إسماعيل، وكانت مولاة آل عتيك، وهم من بني عدوة؛ ولدت بالبصرة، لأبوين فقيرين، وجاءت بعد ثلاث بنات فسماها أبوها رابعة، وروى أبوها أنه رأى في المنام النبي "ص" يقول له "لا تحزن؛ فهذه الوليدة سيدة جليلة"، ولكن هذا الوالد مات سريعًا، ثم لحقت به زوجته دون أن يتركا من أسباب العيش سوى قارب ينقل الناس ببضع دراهم معدودة، فخرجت رابعة لتعمل مكان أبيها، واعتادت أن تهون عن نفسها بالغناء بعد شقاء كل يوم. في أحد الأيام رأت رابعة في نومها نورًا ساطعًا يُحيط بها، فسبحت فيه، وسمعت مُناديًا يطلب منها ترك اللهو والغناء والانشغال بالتفرغ بالتضرع والمناجاة، واستبدال الألحان بالقرآن؛ وقيل أنه من يومها انقطعت عن الغناء، واستبدلت أشعار اللهو بأشعار الزهد والصلاح، وأقبلت على العبادة، وبدأت بحفظ القرآن والعبادة والتهجد في سكون الليل، وواجهت أول بلاء عندما حدثت في العراق مجاعة، وانتشر القحط والجفاف، فتشردت بنات إسماعيل الأربعة، ولم تلتق رابعة وأخواتها بعد ذلك، ثُم زاد بلاؤها عندما أخذها لص وقام ببيعها في سوق العبيد لتاجر فظ أذاقها سوء العذاب، ولكنها صبرت وازداد تعلقها بربها الذي كانت تُناجيه في خلوتها دائمًا، واستمرت على صلابتها دون أن تفتر لها عزيمة أو تتغير، رغم ازدياد سوء الظروف والأحوال، وقد تعرض لها رجل حاول الاعتداء عليها، فدافعت عن كرامتها وعفتها حتى كُسِر ذراعها، وعندما عادت إلى مكانها الآمن سجدت لله شكرًا أن نجّاها، وتدعوه أن يؤنس وحدتها، ولم تشعر بعدها بوحدة. "إلهي هدأت الأصوات وسكنت الحركات، وخلا كل حبيب بحبيبه، وقد خلوت بك أيها المحبوب، فاجعل خلوتي منك في هذه الليلة عتقي من النار". وبينما لا تزال تُعاني العبودية، كان من اشترى رابعة، وهو أحد كبار آل عتيك - وكانوا قوم من بني عدوة- يمر بجوارها ذات يوم، وسمعها وهي تدعو الله أن يُخلصها من الرق، وقيل أنه رأى حولها نورًا، فرق قلبه وأعتقها؛ ومنذ عتقها جعلت الآخرة همها، واعتزلت الخلق، وبنت لنفسها مُصلى منفردًا، وانقطعت فيه للعبادة، وقصدت المساجد لسماع الفقه. "وزادي قليل ما أراه مبلغي أللزاد أبكي؟.. أم لطول مسافتي؟ أتحرقني بالنار يا غاية المُنى فأين رجائي فيك؟.. أين مخافتي؟ كان قلب رابعة دومًا ملئ بالتضرع إلى الله، غارقًا في البُكاء من محبته وخشيته، فكانت إذا مرت بآية فيها ذُكرت فيها النار سقطت مغشيًا عليها من الخوف، وإذا مرت بآية فيها تشويق إلى الجنة ركنت إليها، وكان تصلي الليل كله، وتأنس في خلوتها بالله، ووصفت ذلك بأنها تجد فيه لذة لا يجدها الملوك، وكانت تضع كفنها أمام عينيها حتى لا تنسى الموت، وكانت إذا تكاسلت تلوم نفسها قائلة "يا نفس إلى كم تنامين، يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور، وكانت تبكي في سجودها حتى يبتل موضع رأسها، ولا تتعجل الانصراف من وقوفها بين يدي الله، بل تحب طول المقام، وكانت تصوم معظم الأيام. "أستغفر الله من قلة صدقي في قولي أستغفر الله". بلغت رابعة من التواضع والزهد درجة لا يبلغها إلا الصالحون، وأصبحت نموذجًا يُحتذى به في التطلع إلى ما عند الله من الكرامة والنعيم في الجنة، ولم يصبها الغرور، بل اتسمت طيلة حياتها بالتواضع الشديد، وكانت في عين نفسها أقل العباد؛ وبلغ هذا التواضع أن جاءها في أحد الأيام رجل يطلب منها الدعاء فأجابته "من أنا يرحمك الله؟، أطع ربك وادعه فإنه يجيب دعوة المضطر"؛ وكانت ترى الدنيا وما فيها أهون عليها من جناح بعوضة؛ وقيل أنها حينما عرض عليها الزواج من رجل صاحب غنى وجاه واسع يتفاخر به يتمناه أي فتاة، رفضت برقة وكتبت له "أما بعد، فإن الزهد في الدنيا راحة القلب والبدن، وإن الرغبة فيها تورث الهم والحزن.. فما يسرني أن الله خولني أضعاف ما خولك فيشغلني بك عنه طرفة عين والسلام". "اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم". كانت رابعة ترى أنه لا راحة للمؤمن إلا بعد الموت على الإيمان الذي لم يُفارقها ذكره، وكان المال بالنسبة إليها غير مدعاة للفرح، وكانت ترى الثراء يستوي والتراب، ورُوي أنها ناجت الله تعالى فقالت "يا إلهي تحرق بالنار قلبًا يحبك؟"، فهتف بها هاتف "ما كنا نفعل هذا، فلا تظني بنا ظن السوء"؛ وفي إحدى الأيام صعب الظاهر من حالها على أحدهم والذي كان ينظر إلى ثوبها الرث، وأشار عليها بمن يعينها على تحسين حالتها، فردت عليه بقولها "ألست على الإسلام، فهو العز الذي لا ذل معه، والغنى الذي لا فقر معه، والأنس الذي لا وحشة معه، والله إني لأستحي أن أسأل الدنيا من يملكها؟ فكيف أسالها من لا يملكها"؛ وكان سفيان الثوري دومًا ما يأخذ بيد جعفر بن سليمان قائلًا له"مر بنا إلى المؤدبة التي لا أجد من أستريح إليه إذا فارقتها"؛ وكان لها الكثير من الحكم البليغة، حتى قال عنها الإمام ابن الجوزي"كانت رابعة فطنة". "محب الله لا يسكن أنينه وحنينه حتى يسكن مع محبوبه". فارقت رابعة العدوية الحياة وفاتها سنة 180 هجرية، وقيل سنة 185، بعد أن بلغت من عمرها الثمانين عامًا، وكفنت في جبة من شعر كانت تقوم فيها إذا هدأت العيون، وقالت خادمتها أنها رأتها في المنام وعليها حلة من إستبرق وخمار من سندس أخضر لم يُر أجمل منه؛ وتم دفنها في مدينة القدس في قبر مُقام على رأس جبل الطور؛ وذكر ابن خلكان عن واحدًا ممن أحبوها قوله"كنت أدعو لرابعة العدوية، فرأيتها في المنام تقول: هداياك تأتينا على أطباق من نور مخمرة بمناديل من نور".