حاورها: محمود قطز “,”محلك سر“,”..هي الرواية الصادرة حديثاً للقاصة والروائية المصرية الشابة “,”سمر نور“,”، بعد مجموعتين قصصيتين “,”معراج“,” عام 1998، و“,” بريق لا يُحتمل“,” 2004..وفي روايتها استطاعت أن تنقل أجواء عوالم في الواقع المعيش لها ظروفٌ تكوينية وحياتية خاصة، مُقيمة هذا الجدل بين الحركة الدائبة والسكون، من زاوية رؤيتِها هى للعالم.. تعمل “,”سمر نور“,” بالصحافة الثقافية، وحصلت خلالها على جائزة نقابة الصحفيين المصرية، عن تحقيق أجرته حول “,”محمد خليل قاسم“,”.. وحصلت أيضاً على جائزة نجيب محفوظ من “,”نادي القصة“,” بالقاهرة.. حولَ آخر إصداراتِها “,”محلك سر“,” وتجربتِها في الكتابةِ الأدبية والصحفية.. كان معها هذا الحوار.. العنوان “,”محلك سر“,” هل يمكن قراءته على انه وجودي بتكرار نماذج في الحياة على الرغم من حركة العمر المليئة بالأحداث لكل شخصية يمكن قراءته بمستويات مختلفة، ذكرت صوفى فى الفصل الأخير المعنون ب “,”باب“,” قراءة أخرى للعنوان “,”نسير في رحلة بحث تخصنا. نتحرك ونحن في أماكننا كمن تلعب على ممشى الجيم المتحرك، كي تفقد زوائد الوزن، ما تراكم على الجسد من شحم وما قد يحيط القلب من دهون. حركة مفيدة لتقوية العضل واكتساب الصحة، لكنها إن زادت قد تصل بنا إلى حيث لا يمكننا الرجوع، قد نفقد كل ما نملكه من قوة ووزن ونصبح أكثر خفة وأقل قدرة على التحمل. وربما كان هذا الوهن الذي أشعر بداية عجز تام لا يمكن بعده الاستمرار في اللعب، الحركة فى المكان قد تحمل المعنى المباشر الذى يتبادر فى الأذهان ويطرح فكرة الركود والتكرار لكنه أيضًا قد يحمل إشارة صحية فهنا تتحرك الشخصيات الاساسية داخل الذاكرة فى رحلة للبحث والمراجعة ربما تجعلهم أكثر قوة وقدرة على المواجهة والسير نحو مستقبل مختلف بوعى أكبر وبقدرة أعلى على الاستمرار رغم الظرف التاريخي للسرد الذي يُراوحُ المُستقبل والماضي معاً، جاء عالمُ الطفولةِ فيها حميمياً.. فإلى أى مدى كانت ملامح شخصياتِك مُتحققةً في الواقعِ؟ هذا سؤالٌ موحٍ، لأن هناك كثيرين بيشغلهم مدى ارتباط العمل بالواقع، وأنا أرى أن العلاقة فى أى عمل فني بين الواقع والخيال ملتبسةٌ جدا، حين يشرع كاتب ما فى كتابة سيرته الذاتية ويعتقد فى نفسه كونه يسرد واقع حياته فهو- حتى لو اعتقد أنه يسرد الواقع- يقدم ما يعتقد أنه الواقع، لكن هذا الواقع اختلط بالكثير من الخيالات دون أن يدرى، فمابالك وأنا لا اكتب سيرة ذاتية، هذا عمل روائي، وحتى وإن استعنت بشخصيات واقعية أو بأماكن أعرفها فقد دخلت فى قلب عالم متخيل بالتالى لم تعد هى كما هى فى الواقع، الرواية ذاتها تطرح فكرة العلاقة بين الذكريات والواقع، فأحيانا ما نحتفظ به من طفولتنا معتقدين أنه يمثل ما عشناه يحمل الكثير من الخيال، لمى خبرت هذا من خلال رحلة خاضتها بالصدفة لاكتشاف “,”بيت العجائز“,” ثم انطلقت فى رحلة بحث خلف الماضى الذى تحول بفعل الزمن إلى ماضٍ متخيل الروايةُ تطرحُ تصوراً آخر عن (الجنون) كان حاضراً ومتجسداً في شخصية سيد الذي تُختلق عنه الحكايات.. ومعنى أعمق في اصطدام عالم (لمى) الخاص جداً بواقعِها.. بمعنى أن (الجنون) يظل عالماً غير معروف لمن يتصدى له.. لكن نحومُ حوله؟ فكرة الجنون التي بدأت بمعناها الصارخ مع شخصية “,”سيد“,” ووجدت بأشكال مختلفة في عالم الطفولة والمراهقة ل“,”لمى“,” و“,”صوفى“,”، هي نفس الفكرة التي تمتد على طول النص، الجنون بمعناه المرضي المباشر أو بمعناه الاجتماعي الذى يصبغ كصفه على أي متمرد أو خارج عن السلطة الاجتماعية أو السياسية أو الدينية، الجنون كمعادل للخروج عن الإطار، وكنتيجة لكم من الضغوط التي تمارس ضد الفرد، الجنون في “,”محلك سر“,” يشمل كل ذلك“,” وإن كانت الطفلتان قد وجدتا عالم الجنون الأكثر إبهارا ووجدته “,”لمى“,” الحلم الذى ترغب أن تكونه حين تكبر خارج إطار النقد أو الحصار، وجدتاه حين كبرتا أكثر عمقًا ربما من عالم العقلاء وهما في إطاره عكس رغبتهما الطفولية، العالم الذى يسير في أطر محددة سلفًا، لكن جنون الطفولة أختلف عن جنون الكبار ولم يعد هذا الذى يدعو للانبهار والسعادة، بل صار عالمًا صعبًا ومتشابكًا ومعقدًا لدرجة فاقت قدرتهما على التحمل من واقع إجابتك هذه هل يمكننا اعتبار “,”محلك سر“,” رغم احتشادها بالتفاصيل الحية إسقاطاً على مجتمع أخذ في التشوه في مرحلة ما؟ لا يمكنني ككاتبة للنص أن أرى الأمر من هذه الزاوية ربما تكون تلك رؤى خاصة بالنقاد، كل ما كنت أرغبه هو رسم عالم فتاتين تنتميان لفترة زمنية وواقع حياة عشناه جميعا، لكنهما بالتأكيد تحملان اختلافات في الشخصية والتركيبة النفسية وفى التعامل مع الواقع، والتعاطي معه، هما أقرب لعالم الخيال، وتماسهما مع الواقع في مناطق من النص يمكن أن يخلق هذا الإسقاط إن أردت، لكنه لم يكن هدفي في الحقيقة الرواية تفجر كثيراً من الأسئلة ربما لا ترتبط كثيراً بفنيات الكتابة بقدر ما ترتبط بالموضوع.. منها هل لو كانت (لمى وصوفي) في بيئة مكانية مُختلفة مع تشابه الظرف التاريخي.. هل ستكون هذه أفكارهما لواقعهما.. أم ان الأمر في رأيك يتوقف على طبيعة الشخصية السيكولوجية بالأساس التي تقرأ الحياة بهذا الشكل؟ كل العوامل تتفاعل مع بعضها البعض، فنحن لا نتحرك بمعزل عن الواقع، لكن فى نفس الوقت لكل منا تركيبته النفسية التي تشكل تفاعله مع هذا الواقع، وربما لو وجدت الشخصيات جميعُها في بيئةٍ مُختلفة بالطبع ستكون هناك مُتغيرات في مُجريات الأحداث وفق هذه البيئة، لأن جميع العناصر تكون الحدث.. فلا يُمكن مثلاً أن يكون العامل الزمنى وحده مؤثراً في طبائع وردود الأفعال والتكوين الثقافي، فالمكان والزمان والوضع المعيشي، والتجارب وغيرها عناصر فارقة في كُل إبداع بل في كل واقع. كثيرٌ من المشاهد رغم دقتها في السرد، ورغم أن فكرة الحكيْ دائما حاضرة.. غير أن هناك مسحةً شعرية حاضرة في كثير من مناطق الرواية.. هل هناك تفسيرٌ ما؟ أنا في أعمالي السابقة كنت ألعب على اللغة، وكانت الجمل والكلام تأخذني لسحرها أكثر من الفكرة، اللعب على اللغة ومسحتها الشعرية ورسم الجمل بشكل أشبه بلوحات الفن التشكيلي، ونقل الصور السينمائية، كانت لعبة أساسية في نصوصي القصيرة، في هذه الرواية قررت ألا تكون لعبة اللغة هي الأساس، بالعكس أنا سخرتها لخدمة الفكرة ولمساعدتي على التنقل في السرد من منطقة لأخرى قدر الإمكان.. في الفصل الأول كان الراوي أشبه بالراوي العليم الذي يتحرك داخل عالم الطفولة الخاصة بالبنتين مقترباً من عالمهما ولغتهما قدر الإمكان، وحين أردتُ أن أُحدثَ نقلة ل“,”لمى“,” في سن ما بعد الثلاثين فصلت القارئ بمشهد الحلم بلغته الشعرية وبعدها بفقرة فيها تأمل فلسفي، أردتُ أن تخدمَ اللغة نقلاتي بين البنتين بشخصياتهما وبين الأزمنة وبينهما وبين الراوي، وأن تعكس أيضاً درجة الوعى التي تختلف من منطقة لأخرى في النص وفقا للتنوير البادي من عملية البحث المجموعتان القصصيتين (معراج) و(بريق لا يحتمل) تجربتان مختلفتان من حيث الكيف (قصص).. فما المسافة والتغيرات بينهما و(محلك سر) كعمل روائي..؟ اقصد الجهد، كتابة الدفقة، الابتعاد عن النص والرجوع إليه.. واختلافات أخرى.. أي الشكلين ترينَه مُعبراً عنكِ أكثر؟ من قبل كلما سألني أحد: متى تكتبين رواية كنت أضيقُ بهذا السؤال، واقول إني قاصة وأن القاص ليس بالضرورة أن يكون روائيا وأن كتابة القصة اصعب من كتابة الرواية، وكنت أرى أنى لن أكتب رواية طويلة، وبعد أن قررت خوض تجربة الرواية وجدت نفسي مسحورة بهذا الفن، والغريبة أنى ظللتُ أراه الأقرب لي، وربما يأخذني من كتابة القصة، لا أعرف بالتأكيد فقد تعلمت ألا أحجر على ما أفعله، بمعنى أن رأيي هذا قد يتغير غدًا حين أشرع في كتابة مجموعة قصصية ما، العالم الذى يتكون على مهل بداخلك هو الذى يشدك نحو الوسيط للتعبير عنه. بمناسبة تشكيل ملامح الشخصيات لاحظنا تجربة موازية للفنانة التشكيلية “,”حنان محفوظ“,” في صفحات الرواية.. وهى المرة الثانية بعد تجربة “,”معراج“,”، فما منبع الفكرة؟ وأيهما أسبق؟ الكتابة أم التشكيل؟ هل كان توازياً أم تكاملاً في الإحساس بالشخصيات؟ اللوحات موازية للنص وليست مكملة له، ببساطة بدأت الفكرة عندما كلمت حنان عن الرواية وأنا بصدد كتابتها، بدأت الاول بكتابة فصل “,”بيت العجائز“,” وهى بدأت ترسم، كنا معاً نكتب ونرسم فصلين “,”بيت العجائز“,” ثم “,”عالم صوفي ولمى“,”، كان هدفنا تشجيع كلٌ منا الآخر، وحينما انتهينا من الفصلين فكرنا لماذا لا نكرر تجربة “,”معراج“,”، لكن فى معراج هناك لوحات رُسمت موازاةً لنصوص والعكس أو بالتوازي، أما فى الرواية النص واللوحات وُلدا معاً، والجديد في التجربة هنا أننا بدأنا نعمل بمعزل عن بعضنا بعد أول فصلين. في شهادةِ لكِ عن الكتابة قلتِ إنها اكتشاف مناطق جديدة والكتابة عنها وفق رؤيتنا إذا ارتبطت الكتابة بالجديد الذي يستحق الاكتشاف.. فما موقفك من “,”محلك سر“,” بعد مرور سنوات.. ألا تعتقدين أنها تظل بها الجديد الذي يمكن اكتشافه مع الوقت؟ لدى قناعة أن العمل الجيد لا يرتبط بتاريخ ما، من المفترض ان يظل صالحاً للتأويل والمتعة والدهشة، وهذا ما أتطلع لكتابته، لكن في شهادتي كنت أتكلم عنى انا ككاتبة، ترغب في عدم تكرار نفسها، أرغب في الاستمتاع بما أكتبه أثناء عملية الكتابة ذاتها والبحث عن مناطق جديدة لم أكتشفها في العالم وفى نفسي، مازالت الحياة قادرة على خلق الجديد، ومازال الخيال قادرًا على اكتشاف ما وراء الواقع، لكن طبعا إنتاجُك الجديد هو امتداد لعملك السابق، بمعنى انه يطرح زاوية جديدة من العالم الذى تخلقه، عالماً لا يخلو من التفاصيل الجديدة، الآن أرى شخصيات في “,”محلك سر“,” يمكنني الرجوع والكتابة عنها في عمل منفصل مثل شخصيتي الرواية تناولتها في نصوص ذكية وسكينة، وهناك افكار تشغلني وستظل تشغلني. سمر نور كاتبة قصة وصحافية في الوقت ذاتِه.. لن أتحدث عن تعارض لكن هل يمكن توضيح العلاقة الجدلية بينهما، وتأثير الكتابتين على الأخرى إيجاباً وسلباً.. وهل يقتضي ذلك التحول التلقائي في طبيعة شخصيتك بحسب لحظة الكتابة ونوعها؟ عندما اخترت العمل الصحفي أثناء دراستي الجامعية، رغم بعدها عن المجال تماما، كنت أعتقد أن الصحافة هي الأقرب لعالم الأدب والكتابة، التجربة العملية أثبتت عكس ذلك خاصة أنى بدأت في توقيت لم يكن فيه للصحافة الثقافية منابر متعددة، بالتالي عملت لفترات في مجال التحقيقات والأخبار، وهو على مستوى اللغة يمكن أن يكون مختلفا عن لغة الأدب، لكن على مستوى التجربة فهو يمنحك تجربة إنسانية ثرية، ومعرفة أكثر اتساعا، وبعد ذلك تخصصت في الصحافة الأدبية، ومع الوقت استطعت الكتابة بلغة صحفية متأثرة بلغة الأدب، لم تتأثر لغة الأدب عندي بالصحافة في نصوصي القصيرة لكن أعتقد أنها في روايتي منحتني القدرة على التحكم في اللغة في بعض المواضع، وساعدتني تحديدا في منطقة البحث والأجزاء التي تقترب من منطقة التحقيق الصحفي، لا أعتقد أن الصحافة أثرت على لغتي سلبًا بل ربما الأدب أثر على لغتي الصحفية.