في رواية "سرير الرمان" للكاتب أسامة حبشي الصادرة عن المجلس الأعلى للثقافة، عام 2013، تجسيد روائى للمشكلة الفلسفية التي عالجها كثيرون من الفلاسفة، خاصة الفلسفة الوجودية، أمثال الفيلسوف الدنماركى كيركجارد والفيلسوف الفرنسى سارتر إلخ حيث أنّ الراوى في الرواية دائم القلق، دائم التوتر، دائم البحث عن كل ما هو جديد، وقد صوّر له عقله أنّ الحياة التقليدية، هي أشبه بالموت منها إلى الحياة المُتجدّدة المُتدفقة، وبسبب هذا التصور العقلى والنفسى، كان يرفض الاستقرار في مكان واحد، لذلك تنقّل بين أكثر من بيت وأكثر من شقة بل بين أكثر من دولة أوروبية. ورغم أنه لا يمتلك مفتاحًا واحدًا يخصه لمكان يسكن فيه-مثل أغلب البشر- فإنه امتلك العديد من المفاتيح، التي هي مفاتيح شُقق الأصدقاء، سواء في مصر أو من تعرّف عليهم في أوروبا. ومثل أي متوالية هندسية، فإنّ القلق الوجودى لابد أنْ ينتج عنه التفكير في الانتحار، وهو ما حدث مع بطل الرواية الذي فكّر كثيرًا في الانتحار، ورغم ذلك فإنه بعد عدة تجارب فاشلة، فإنه في النهاية رأى أنّ الانتحار كلمة فضفاضة، كلمة تعنى التنازل طواعية عن لحظات قادمة، كلمة تُصر على فرض نفسها في الأوقات العصيبة. "الانتحار هروب أحيانًا، وفى أحيان أخرى موقف مما نرفضه، مرات كثيرة فكرتُ في الانتحار معتقدًا أننى إنسان فاشل لا يحق له الحياة، وفكرتُ فيه أيضًا معتقدًا أننى أكتفى من الدنيا بما جمعته من لحظات، وآخر مرة للانتحار كانت تنتمى للمعنى الثانى، لذا اتصلتُ بالمُقربين لى وحدّدتُ موعدًا للاحتفال بهذا الانتحار، في يوم كذا الساعة كذا في ميدان التحرير، وقررتُ الاتصال ببعض البرامج التليفزيونية بغرض التصوير.. لكننى ألغيتُ الفكرة بسبب رغبتى في كتابة نفسى.. ولا أخفى سرًا أننى الآن نادم على تأجيل تنفيذ انتحارى، وعاجز عن فهم خوفى من ترك لحظاتى" (ص121) والسبب – كما يتبيّن من صفحات الرواية – أنه مهموم بالبحث عن أسئلة الوجود الكبرى، عن الحياة والموت وعن حقيقة المرأة، ولذلك كان الاهداء ذات دلالة حيث جاء به ((إلى التي تروى المساء بجنونها وتُخبىء النهار في كفها وتحمل رائحة فرساى وتونس في نظرتها، تلك السابحة في حريتها إلى ما لا نهاية، وكأنها هي نهاية النهايات وبداية البدايات)) ولأنّ أسامة حبشى تعوّد على مزج الواقع بالخيال، فإنّ بطله أوجد شخصية السيدة العجوز – وهو في العاشرة من عمره – وشبّهته ب (الشجرة) وقالت له ((الشجرة يا ولدى هي أنت.. والروح لا تُمحى إلا بيد واهبها، والأشجار أعمار، كُتب علينا تسلقها للنهاية. وعند النهاية تجد السقوط عندما يفشل الفرع في حمل صاحبه)) وصدّق الراوى خياله، لذلك عندما قرّر ترك مدينة القاهرة التي أطلق عليها (مدينة الحب والجنون) وهاجر إلى الصحراء فإنّ خياله استمع إلى صوت السيدة العجوز، بل تخيّل أنه يرى وجهها بكل وضوح وهى تهمس في أذنه قائلة ((البحر هو بطن الكون أيتها الشجرة المسافرة، والرمان هو لغز السفر، والسفر لغز الحياة، والحياة لغز الطبيعة، أيها العابر في ذاتك عَبْر ذاتك)) والجملة الأخيرة ذكرتنى بما قاله الشاعر الفارسى جلال الدين الرومى (المولود في بلخ من بلاد فارس وحاليًا في أفغانستان) حيث قال ((إنْ لم يعد لك قدم تسافر بها.. فسافر في نفسك.. سافر إلى نفسك)) والراوى يُصر على تبرير كل تصرفاته وعلى قرار العيش في الصحراء، على ما صنعه خياله من كلمات السيدة العجوز التي قالت له أيضًا ((ستعيش بقانون الطبيعة، وستكبر بين غرائزك مثل الحشائش بجانب النهر.. وفى العقد الرابع سترحل بجانب النهر. تاركًا رمانك خلفك.. وستظل هناك سنوات وفى نهاية المطاف سيتساوى كل شىء.. وستنام نومًا يفصل ما بين الأشياء، نومًا يتساوى فيه أنْ تملك أو لا تملك، فكل الأمور هناك سواء)) وحتى لا يترك الكاتب القارىء في حيرة عن شخصية السيدة العجوز: وهل هي شخصية حقيقية أم من تخيلات الراوى، فإنه فكّ شفرة غموضها عندما كتب على لسان الرواى ((ثلاثون عامًا تفصل ما بين لحظة مقابلة العجوز الشبح والحلم والرمان ولحظتى الآن.. ولكننى لا أعرف هل كنتُ أحلم أم أننى بصحبة العجوز في رحلة عبر الزمن؟ وهل كانت العجوز والحلم هذيان؟)) والرواى يمتزج داخل وجدانه وعقله الحس الوجودى بالبوهيمية التي تعود به إلى حياة الطبيعة في بكارتها، لذلك قال ((اعتبر نفسى كائنًا ليليًا. وأدرك أنه يجب محاربة الموت بالمتع اللانهائية. ورمى الجسد في تفاصيل عابرات السبيل بشكل دائم وفورى دون السؤال عن أي شىء)) وإذا كان هذا الموقف منه جاء في بداية الرواية (ص24) فقد طبّقه في كل صفحات الرواية، حيث العلاقات المُتعدّدة والسفر الدائم، وهو ما يتعرّف القارىء عليه من خلال تذكر الرواى لمغامراته وسفره، بعد أنْ استقر في الصحراء بشكل دائم، ولذلك عندما وصل إلى الصحراء قال ((أنا في حضرة الرمانة الأم. الرمانة الأزلية. في حضرة الرمال والصخور والهواء والأرض والسماء. أنا في حضرة النجوم والقمر والشمس، فهل بمستقر يفوق كل هذا المستقر المُسمى بالطبيعة؟)) وكان من حُسن حظه أنْ تقابل مع أحد سكان الصحراء من البدو، ورغم أنّ الرجل استضافه واحتضنه وهيّأ له معيشة دائمة ومُستقرة إلاّ أنه قال له: أنت مجنون. ورغم ذلك فإنّ البدوى أحبه وعلّمه لغة الصمت والمراقبة وصيد الحيوانات البرية وكيفية تخزين لحومها بعد الشواء وبعد أيام قليلة ((صرتُ والبدوى صديقيْن)) ومن هنا بدأ التوحد مع الصحراء، أي بدأ التوحد مع الطبيعة. ولأنّ الراوى مطبوع بخاصية التأمل، وملاحظة ما تفعله الكائنات الأخرى، لذلك توقف وهو يُشاهد حشرة تحفر لنفسها نفقًا، ثم يتخيل اتحادها بالرمال، ثم الصراع بينهما، أما عن رؤيته لأمواج البحر ((فكأنّ السحر يأتى معها مُتحدًا)) ولأنّ الراوى والبدوى عشقا الوحدة والصحراء، لذلك تقاربتْ أفكارهما، فقال البدوى أنّ الجبال تتزاوج، والصخور تبكى وتضحك. وتعاون الراوى والبدوى في صناعة السرير الذي أخذ اسم (سرير الرمان) وهو أشبه بسجادة طبيعية مكونة من أجزاء النخل والغاب. ولشدة ولع الراوى بتصديق خيالاته، فإنه ربط بين وجه البدوى ووجه السيدة العجوز، تلك السيدة التي صنعها خياله، وكان الربط لمجرد التشابه في بياض البشرة والنمش الكثيف والشعر الأبيض، بين وجه البدوى ووجه السيدة العجوز. وعندما مات البدوى كانت وصيته أنْ ترك للراوى ((جملا وماعزتيْن وحصانًا وفلسفة في الموت والحياة)) وقبل أنْ يستقر الراوى في الصحراء، تعدّدتْ علاقاته النسائية، وفى أكثر من بلد، وكان في تلك الفترة، يترك نفسه لغرائزه (كما قالت السيدة العجوز له أو كما أقنع هو نفسه) ولا يُبالى بأية نتائج، ولكنه بعد أنْ استقر في الصحراء، بدأ يُعيد النظر في ماضيه، وكأنّ الصحراء هي (المُطهر) أو هي المرحلة الوسط بين الجحيم والفردوس، كما فعل دانتى في الكوميديا الإلهية. لذلك عندما تعرّف الراوى على الفتاة الألمانية (كاثرين) عاملها معاملة تختلف عن معاملته بكل من تقابل معهنّ من فتيات، فلم يكن الجنس هاجسه الأول، وإنما إقامة علاقة إنسانية من طراز رفيع، خاصة بعد أنْ عرف ظروفها، وكيف هربتْ من جحيم ألمانياالشرقية حتى وصلت إلى برلينالغربية، وأنّ والدها ضحى بحياته وهو يساعدها على تسلق الجدار الفاصل بين الألمانيتيْن، وكان مصيره القتل برصاص أحد الجنود. ورغم أنّ كاثرين كانت تخجل من عمل والديها، إلاّ أنها تنبّهتْ مؤخرًا أنهما كانا أعظم شىء في حياتها، فالأب ضحى بحياته والأم أعطتها كل ما تملك (رغم فقرها) لتواصل تعليمها، وبعد أنْ حكت للراوى تلك التفاصيل، وجد أنها تُشبهه في أشياء كثيرة، وأنّ والديها أشبه بوالديه (في الفقر وفى المحبة والتضحية) وكان تعليقه ((صدفة طيبة أم خبيثة، أنّ حزن كاثرين مشابه لحزنى؟ وهل صدفة أنْ أعود لفلسفة الرمان مرة أخرى عبر كاثرين؟ ولماذا أنا وهى نتحدث بنفس لغة الندم والتذكر؟) ولذلك كان اتحاد جسديهما اتحادًا صوفيًا، فكان الراوى – مع لحظات التقارب الجسدى – يتذكر أشعار ابن الفارض وهما على سرير الرمان (أو السرير المائى) وظلا هكذا حتى بزوغ الشروق ((ولم نتفوه بكلمة وغصنا في صفاء الروح)) إنّ رواية (سرير الرمان) جديرة بالقراءة، حيث المعالجة الروائية لفلسفة الوجود، وحيث لغتها شديدة الكثافة والسحر في آن واحد.