تؤلمني كثيرا مشاهد الاستعباط، وكنا وما زلنا نشاهدها في كل طابور على أي شباك، حيث تجد الشعب المنضبط ملتزمًا بدوره ومكانه في الطابور، وفجأة بين الحين والحين تجد أحد النخب يفضل الاستعباط على الانضباط، فيدخل في أول الصف متجاوزا جميع الواقفين، ولا يبالي بحنقهم ولا بأصوات شفاههم وهي تزوم، ولا يعير بالا لقلوبهم التي تكرهه وتلعنه، ولا عنده نقطة دم واحدة. والحق يقال: إن هذا السلوك قل بصورة ملحوظة بعد ثورة 25 يناير؛ فلم يعد البسطاء يخشون من انتماء أحد المستعبطين لسلطة غاشمة، فما إن يتجاوز الحدود إلا ولاحقته هتافات الاستنكار والرفض، وربما استطالت لتجره من أذنيه ليلتزم بالصف. ولكن يظل هذا السلوك يتعاظم ويتفاقم ويتبجح لدى النخب النخباء، ويقل بصورة كبيرة بين البسطاء، وقد رأينا في الاستفتاء الأخير على الدستور أحد زعماء جمهورية (لا) النخبوية يتجاوز صفوف المنضبطين (اللي حامدين ربنا وواقفين صباحي) مدعيًّا أن أحد مريديه ورعاياه تنازل له عن دوره في أول الصف في مشهد مصور لحالة من حالات الاستعباط. والمؤلم حقا هو أن تستمر هذه المشاهد بل وتنتقل عدواها من الطوابير إلى ميدان الرأي والسياسة، بصور أكثر فجاجة، ومنها أن ترى بعض حديثي التعيين في النيابة يتجاوزون صفوف عملهم ويتكاثرون على النائب العام ليرهبوه، وكل الشرفاء يعلمون جيدا كيف تم تعيين هؤلاء في العهد البائد بالوساطة الفجة، ولو تم فتح ملفات تعيينهم في القاهرة لفر أهلنا في الصعيد إلى السودان وألقى أهلنا في الإسكندرية بأنفسهم في البحر من رائحتها النتنة.. وهم يتجاهلون هذا كله ويفضلون الاستعباط على الانضباط. وفي هذا الإطار، لا نستغرب من أن نجد أستاذًا مشهورا للعلوم السياسية منذ بضعة أيام على فضائية ينكر ويستنكر ويرفض كل ما آلت إليه الحياة السياسية (بكلام لا هو حسن وعبارات ليست نافعة) وعندما سأله المذيع عن رؤيته النيرة للخروج من المأزق الذي يتوهمه، قال: على الرئيس مرسي أن يفعل الآتي: يحل مجلس الشورى. يلغي دستور البلاد. يلغي انتخابات مجلس الشعب. ثم يجلس -في وجهة نظره- مع زعيط ومعيط ونطاط الحيط ليتوافق معهم على كل ما ينبغي أن يتم في المرحلة المقبلة....؟! هذا الكلام الفارغ لا يحتاج إلى بيان تهافته، وإنما الذي يحتاج للتأمل حقًّا هو صدوره عن أستاذ للعلوم السياسية مما يستدعي محللا نفسيا ربما يوضح ما يجعله يهرتل هذه الهرتلة، ولا أرى تفسيرا لذلك إلا أن البعض أصبح يفضل الاستعباط على الانضباط. إن المسار المنضبط الذي لا بديل له هو أن يمضي الوطن قدما في الطريق الذي اختاره الشعب بداية من استفتاء 19 مارس 2011 ونهاية باستفتاء 22 ديسمبر 2012 على دستور البلاد، تلك هي الإرادة الشعبية التي لا يمكن أن يلغيها أو يتعادها أحد، هذا هو مسار الانضباط أما الذي يريد أن يلغي هذا أو يتجاوزه، فإنما يسلك مسار الاستعباط، وهذا المسار لن يؤدي إلا إلى نتيجة واحدة وهو أن يبدو السائر فيه أمام الناس عبيطًا، وإني لأربأ بكثير من الرموز السياسية والعلمية من أن تتسكع في هذا المسار، لأنني بالفعل أشفق عليهم من أنفسهم.. وأرجو من الجميع أن نرفع شعارًا مهمًّا في هذه المرحلة؛ ألا وهو (لا للاستعباط.. نعم للانضباط). [email protected]