رواية معبرة ذات دلالات عصرية موحية في ما ذكره ابن إسحاق في أسباب نزول آيات قصة ذي القرنين: (بعثت قريش النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة. فقالوا لهم: سلوهم عن محمد، وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء. فخرجا حتى أتيا المدينة. فسألوا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفوا لهم أمره وبعض قوله، وقالا: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. قال: فقالوا لهم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم فإنهم قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه. وسلوه عن الروح ما هو؟. فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور، فأخبروهم بها. فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد أخبرنا، فسألوه عما أمروهم به. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أخبركم غدا عما سألتم عنه". ولم يستثن، أي لم يقل إن شاء الله فانصرفوا عنه ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث له في ذلك وحيا، ولا يأتيه جبرائيل عليه السلام حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة. ثم جاءه جبرائيل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف وقول الله عز وجل: "ويسألونك عن الروح". الآية). [تفسير القرآن العظيم: ابن كثير] لم تزل الحرب مستمرة: ولنا مع هذه الواقعة، عدة وقفات تأملية: 1-ادخلوا عليهم الباب: تدبر هذا الجهد المضني الذي قام به هذا الطاغية النضر بن الحارث رائد الحرب الإعلامية ضد الدعوة الإسلامية وهو يضرب أكباد الإبل لمئات الأميال مع زميله، للوقوف على خبر هذا الدين الجديد الذي قلب موازين قريش. ولقد جاء ذكر جهوده الإعلامية والأمنية المناوئة للمسيرة الدعوية في سياق أسباب نزول آية سورة الأنفال: "وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ". [الأنفال 31] عندما سافر إلى بلاد الفرس وتعلم بعض القصص والأساطير ثم جاء ليعلن حرب التشويش والتعتيم والتشكيك ضد ما يرويه الحبيب صلى الله عليه وسلم عن ربه. فما أشبه الليلة بالبارحة!. فلم تزل تلك الحرب الإعلامية وإن أخذت بعض الصور العصرية وعلى رأسها الفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي. وتكللها التعاونيات الأمنية، والخطط المحلية والدولية ضد كل ما هو إسلامي، وقد جمعت كل الفصائل الحاقدة من منافقين وليبراليين وعلمانيين ونصاري ويهود وملحدين وغيرهم، وقد حملوا لواءاً يتميز بالتجميع والترتيب والتنظيم والعلو. وقدوتهم فرعون الذي رفع نفس اللواء من قبل ضد موسى عليه السلام وصاح في قوى الشر: "فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى". [طه 64] ولكننا نستغرب غيبة أهل الحق عن هذا الميدان الأعلامي، وإهمالهم لباب الدراسات الجادة وصناعة الفكر وتوجيهه. ولم يدخلوا عليهم الباب!؟. 2-جلد الفاجر وعجز الثقة: وعندما نتدبر هذا العنت والجهد الغريب الذي تحمله الوفد القرشي برئاسة رائد الحرب الإعلامية ضد الدعوة النضر بن الحارث، في رحلاته المتعددة لمجابهة هذا الدين الجديد، وكذلك جهود من على شاكلته من مسؤولي محاربة الأنشطة الدعوية في كل عصر وفي كل مكان. ويقابله كسل بعضنا وقد شق عليه مجرد خطوات يسيره في سبيل الخير، ونشر كلمة الحق والمنافحة عن أهل الحق. فتصدق معنا صرخة أحد الصالحين: (اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر وعجز الثقة)!؟. 3-المتخصصون ... والهواة: الشىء المدهش في أهل الباطل والممثل بقريش آنذاك، أنهم انتدبوا رجلاً معينا ليترأس وفوداً جابت أقطار الأرض، والتقت بكل الثقافات، وألّبت قوي الحقد، وذلك لدراسة خطر هذا الدين القادم الجديد، ودراسة سبل مقاومته، وطرق محاربته، وتجفيف منابعه. وذلك هو ديدن أعداء الدعوة، في كل مكان، وفي كل زمان. وتدبر أحوال أهل الحق، وإهمالهم لمبدأ التخصص، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب. فهم يراوحون بين إهمال لمبدأ دراسة العدو، وبين محاباة تبعد أهل التخصص، واختيار غير أصحاب التخصص. والأدهي من هذا أن يتصدر الآلة الإعلامية الإسلامية المخلصون ولكنهم هواة. حتى باتت العفوية، والجهل الخططي، تهدد صناعة القرار وتنهي الجهود الدعوية بالفشل والوهن والانتكاسات!. 4-حُيَيّْ بن أَخْطَبْ لم يزل يدير المعركة: تدبر موقف اليهود من الدعوة ومن صاحبها صلى الله عليه وسلم منذ نشأتها. فلقد كان من المعلوم عند العرب أنهم أعلم الناس بالحق وبالدين الجديد وبموعد إشراقه، وهذا ما دفع قريش لإرسال وفدهم للاستعلام والاستفسار عنه. وكانوا أحق الناس بالإيمان به وأولى بالاستجابة له قبل غيرهم. ولكنهم كانوا ولا يزالون أشد الناس عداوة للذين آمنوا: "لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ". [المائدة 82] وهي طبيعة يهود، وهو عهدهم:"وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً". [النمل14] وهي نفسية زعيم يهود المدينة (حُيَيّْ بِنْ أَخْطَبْ) الذي كان يعلم بصدق الحبيب صلى الله عليه وسلم، ويعلم أنه على الحق، فأعلن بعناد مدمر: (عداوته والله ما بقيت)!؟. ولهذا نردد أن يهدينا الله الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم من يهود الذين عرفوا الحق وجحدوه؟!. أو الضالين من النصارى الذي جهلوا الحق فعاندوه!؟. 5-اهدموا خنادق الفكر الدفاعي: في تأخر الوحي عنه صلى الله عليه وسلم تلك المدة، ثم يأتيه بالإجابة الشافية. وفي هذا درس تربوي لكل مسلم؛ ألا ينشغل بالرد على حرب الشبهات ومعارك التشكيك، وألا يقع في فخاخ الفكر الدفاعي وألا يضطره عدوه إلى الانزواء في خنادق ومواقع هذا الفكر. وألا ينشغل عن مهمته وخطواته المحسوبة وأهدافه الكبار. وفي هذا دلالة أيضا على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم ولو كان الأمر بيده أو من عندياته لأتى بالرد سريعاً، وما عانى تلك المدة الصعبة. ما أشبه الليلة بالبارحة!؟: عندما نتأمل كلمة (أساطير) في القرآن الكريم وكيف ارتبطت بإسم (النضر بن الحارث)، وهي ترمز إلى أن حرب الشبهات الإعلامية والتهم الجاهزة والمعلبة ضد الإسلاميين أصيلة وليست جديدة!؟. فلا نستغرب أن نرى أتباع النضر لا يزالون على منصات التجمعات وعلى رأس التحالفات ويصدعوننا ليل نهار في دكاكين مَكْلَمات (التوك شو). د. حمدي شعيب خبير تربوي وعلاقات أسرية E-Mail: [email protected]