إذا كان الإسلام قد حث على طلب الرأي وإبدائه من تلقاء النفس، وبدد المخاوف التي تحول دون ممارسة هذا الحق الإنساني، فإنه أيضا قد وضع له عدة ضوابط حتى يؤتي أكله، ولا يخرج عن الحكمة التي شُرع من أجلها، ولكيلا يُتخذ وسيلة للشهرة أو الشو الإعلامي، أو يكون من باب خالف تعرف، أو يكون وسيلة للتخريب والتدمير والإضرار بمصالح الوطن أو الغير، كما يفعل كثيرون في هذه الآونة، ومن هذه الضوابط ما يلي: أولا: الإخلاص فيه وابتغاء وجه الله تعالى به، لقوله تعالى في الحديث القدسي(من عمل عملا أشرك فيه غيري فهو له كله، أنا أغنى الشركاء عن الشريك)، وفي الحديث النبوي(من التمس رضا الله بسخط الناس رضى الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس). ثانيا: أن يكون الرأي فيما لا نص فيه، لحرمة ذلك بدليل قوله تعالى(يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم). ثالثا: الخبرة أو العلم بالأمر الذي يطلب فيه الرأي، فلكل مجال أهله، ولكل علم متخصصوه، ولكل فئة مطالبها التي لا يعرفها أحد من خارج أفرادها، هذا فيما يخص الأمور التخصصية أو الفئوية، أما إذا كان الأمر عاما فلا بد من الحرص على استطلاع رأي الجميع. وهو ما فعله النبي r في بدر وأحد والخندق وغيرها، فمن ذلك ما ورد أن رسول الله r حين أذن له المسلمون في عتق سبي هوازن ، قال : « إني لا أدري من أذن منكم ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمرَكم » فرجع الناس، فكلمهم عرفاؤهم، فرجعوا إلى رسول الله r فأخبروه. رابعا: الأدب والحكمة في عرض الرأي، قال تعالى(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) يقول العلامة الخازن(يعني بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة في الرفق واللين من غير فظاظة ولا تعنيف... حتى ينقادوا إلى الحق ويرجعوا إليه)،وفيه ما يدل على أن التكسير والتخريب المصاحب لإبداء الرأي ليس من الحكمة في شيء، كما أنه قد لا يأتي بالنتيجة المرجوة. خامسا: قبول الآخر والحوار معه حول الرأي بنوع من الود والثقة في أن الحاكم للطرفين هو اعتقاد صواب الرأي الذي يطرحه كل منهما، ولعل هذا ما دفع الإمام الشافعي لأن يقول(رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب). ومن الجدير بالذكر هنا أن الحوار مفيد في كل الأحوال، إذ من الممكن أن يكون الرأي صوابا كله، فيتم الأخذ به، أو يكون صوابا في بعضه، فيتم الأخذ بالصواب منه، أو يكون خطأ كله فيتم تجنبه والحذر منه على المستوى الفردي والجمعي، أو خطأ في بعضه فيترك الخطأ ويعتمد الصواب، فعلى كل حال لن نعدم فائدة من وراء الحوار الهادئ الهادف. سادسا: أن يكون الرأي مدعوما بالأدلة والبراهين التي تثبت صحته وقوته، لا أن يكون مبنيا على عاطفة ومشاعر قد تختلف من شخص إلى آخر، وهذه طريقة اعتمدها القرآن الحكيم، فكثير من أوامره ونواهيه تأتي مصحوبة ببيان السبب فيها، ليحصل للمسلم نوع من الاقتناع الهادف إلى الامتثال، وما كان أغنى القرآن عن هذه الطريقة، إلا أنه بسلوكه لها يعلمنا إياها. سابعا: أن يُطرح الرأي قبل اتخاذ القرار، ذلك أن طرحه بعد اتخاذ القرارات يُحدث نوعا من البلبلة، ويثير الفتنة ويبعث عليها، والبلبلة أيا كان وقتها لا تأتي بخير، وتضر أكثر مما تنفع، وفي غزوة أحد لم يأخذ النبي r برأي طُرح بعد القرار الذي اتُّخذ، تجنبا لذلك. ثامنا: اختيار الوسيلة المناسبة، التي تعبر عن الرأي مع عدم الإضرار بالمصالح العامة أو الخاصة، وأن يتم تغليب المصلحة العامة على المصالح الحزبية أو الطائفية أو غيرها من المصالح التي تضر أكثر مما تنفع، وتفرق أكثر مما تجمع. تاسعا: عدم الاستبداد بالرأي والنزول على ما تراه الأغلبية، وإن كان رأيهم مخالفا لرأيه، كما فعل رسول الله rفي أحد، وبذلك يقوى الصف ويتماسك(واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا). [email protected]