البيان الذي أصدره خمسة وخمسون من الشخصيات السياسة والكتاب في أوروبا وأمريكا حول ما سمي بالاستراتيجية المحددة لعلاج الخلافات ورأب الصدع بين ضفتي الاطلنطي يستحق منا الكثير من التحليل والتعليق بعيدا عن الانفعال والاتهامات المسبقة. والبيان صدر بمناسبة الزيارة - التي وصفت بأنها تاريخية - والتي قام بها مؤخرا الرئيس الأمريكي جورج بوش إلي أوروبا وحضر فيها قمة الاطلنطي في بروكسل، والتقي خلالها بالزعماء الأوروبيين خاصة الرئيس االفرنسي جاك شيراك والمستشار الألماني جرهارد شرويدر، ثم قمة براتسلافا التي عقدت بينه وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. صاغ البيان الكاتبان فيليب جوردون وشارلز جراند (أمريكي وبريطاني) ووقع عليه 55 كاتبا وصحفيا ومفكرا من أوروبا وأمريكا وقدم ما يشبه الوثيقة لعقد اتفاق بين أوروبا وأمريكا والشخصيات التي وقعت هم في غالبيتهم العظمي أمريكيون وبريطانيون ينتمون إلي التيار اليميني المحافظ من أمثال فوكوياما الكاتب الأمريكي الشهير الوثيق الصلة بالخارجية الأمريكية وصاحب كتاب نهاية التاريخ وفريد زكريا رئيس تحرير طبعة نيوزيك العربية وجون جبسون وصموئيل بيرخر ودانيل كوهين، ولرنس فريدمان وعدد آخر من الكتاب ذوي الجذور اليهودية والاتجاهات الصهيونية. * وقد حدد البيان حلولا أوروبية أمريكية مشتركة في ست قضايا أساسية جري حولها الخلاف في السنوات الماضية بين أوروبا وأمريكا خاصة بعد أحداث سبتمبر والمشاكل التي تراكمت في عهد الرئيس الأمريكي جورج بوش. * بالنسبة للعراق يقول عقد الاتفاق إنه أمكن الوصول إلي تفاهم في أن تجري الولاياتالمتحدة حوارا استراتيجيا مع الحلفاء الأوروبيين حول مستقبل العراق وألا تنفرد باتخاذ قرارات أو خطوات قبل ذلك خاصة إذا كان الأمر يتعلق بالحروب في حين سيقوم الاتحاد الأوروبي بتدريب 25 ألفاً من رجال الأمن العراقيين وخمسة آلاف من القيادات المدينة كل عام، كما يقدم الاتحاد الأوروبي حوالي مليار دولار لإعادة اعمار العراق مع اسقاط 50% من ديونه المستحقة لأوروبا. * أما بالنسبة للصين فقد تعهد الاتحاد الأوروبي أنه في حالة رفع الحظر عن بيع الأسلحة إلي الصين، سيرتبط ذلك باتفاق ضمني حول نوعية الأسلحة ويطلب الاتحاد الأوروبي من كل من أمريكا واليابان تقديم قائمة محددة عن نوعية الأسلحة والتكنولوجيا التي يعتقدون أن تزويد الصين لا يمكن أن يضر بأمن واستقرار المنطقة. * واتفق الطرفان حول إيران بالحيلولة دون تملك إيران لأي أسلحة نووية وذلك من خلال مواصلة الاتحاد الأوروبي للحوار مع المسئولين الايرانيين مع التأكيد بضرورة توقيع عقوبات مؤثرة علي ايران حالة رفضها وقف برنامجها النووي والانسحاب من الاتفاقية الدولية لحظر الاسلحة النووية. وفيما يتعلق بالمحكمة الجنائية الدولية تعهدت أمريكا رغم تحفظها علي قوانين تلك المحكمة بعدم اللجوء إلي فرض عقوبات علي الدول التي تساند المحكمة أيضا الموافقة علي عرض قضية دارفور عليها كما تعهدت الولاياتالمتحدة بالتنفيذ الفعلي لاتفاق جنيف حول حقوق الأسري في حربها ضد الارهاب. ولو تأملنا تلك الوثيقة فسنجد أنها تضمنت الخطوط العريضة لما أسفرت عنه رحلة بوش الأخيرة للاتحاد الأوروبي والتي وصفت بأنها رحلة إعادة الدفء إلي العلاقات الاطلنطية ولكن العهد والموقعين عليه تجاهلوا قضيتين أساسيتين علي جانب كبير من الأهمية وهي قضية الصراع الفلسطيني الاسرائيلي من ناحية ثم قضية الوجود السوري في لبنان التي تفجرت في أعقاب اغتيال الرئيس رفيق الحيري واكتفوا بالاشارة إلي الاتفاق الأمريكي الأوروبي حول قضية الديمقراطية والشرق الأوسط. كذلك تجاهل كتاب العهد مشكلة اتفاقية كيوتو الخاصة بالبيئة أو ما يسمي اتفاقية زيادة الانبعاث الحراري والتي وقعتها كل الدول الأوروبية اضافة إلي 130 دولة وعارضتها الولاياتالمتحدة وتحت دعوي أنها تضر بالمصالح الأمريكية. وفيما يتحدث الصحف الأمريكية عن الانجاز الكبير الذي حققه الرئيس بوش في طي الخلافات وبدء صفحة جديدة مع الحلفاء الأوروبيين كما تنشر مجلة الايكوتومست البريطانية ملفا خاصة في نفس الاسبوع حول ما أسمته بالعداء للأمريكية في أوروبا. وتورد المجلة احصائيات عن تزايد نسب العداء لأمريكا وسياستها في أوروبا - خاصة في ألمانيا وفرنسا، فقد اعتبر 65% من الألمان وحوالي 62% عن الفرنسيين أن السياسات الأمريكية تمثل خطرا علي الأمن والسلام العالميين. في حين يكتب نيكول جيستو مدير الدراسات الأمنية في الاتحاد الأوروبي أن أوروبا لديها تراث وفهم أكبر وأعمق من أمريكا بالنسبة لقضايا الشرق الأوسط والديمقراطية فأوروبا هي التي بدأت الحوار الفعال والعملي مع دول جنوب شرق البحر المتوسط في وثيقة برشلونة 1995 كما قدمت مساعدات فعلية علي طريق تنمية وتطور تلك الدول وصلت إلي 5.2 مليار يورو منذ ذلك التاريخ. ويمضي الخبير الأمني الأوروبي في تعليقه علي زيارة الرئيس بوش الأخيرة لأوروبا ليقول إن الفضل يرجع أساسا إلي الاتحاد الأوروبي في دفع عملية السلام من إسرائيل والفلسطينيين ولا يخفي علي أحد - والحديث مازال لمدير معهد الدراسات الأمنية في الاتحاد الأوروبي أن أوروبا قدمت 90% من القوات التابعة لحلف الاطلنطي التي تدخلت في معارك يوغوسلافيا والبوسنة والهرسك وكوسوفو كما أن هناك 70 ألف جندي أوروبي ساهموا في ارساء السلام والاستقرار في أفريقيا ومناطق ساخنة أخري في الكونغو وكوت ديفوار والسودان وذلك تحت اعلام الأممالمتحدة. أما جوني جليين - المدير الالماني مشروع مارشال - فيؤكد أن زيارة بوش الأخيرة لأوروبا، جاءت نتيجة ضغط داخلي علي الادارة الأمريكية، إذ إن هناك 65% من الأمريكيين أكدوا أنه من الضروروي التعاون مع الاتحاد الأوروبي واعطائه دورا أكبر في اتخاذ القرار، بينما علق الكاتب الأمريكي توماس فريدمان بقوله إنه يبدو أن الرئيس بوش ذهب إلي أوروبا هذه المرة ليسمع ولا يتكلم بعد أن ظل لفترة سابقة المتحدث الوحيد. تري بعد كل هذا هل نحن بالفعل ازاء تحالف أو عقد أوروبي أمريكي جديد أم أن الخلافات قائمة وجذورها أعمق والمصالح المتباينة أوسع. سؤال مطروح علي مخططي السياسات الاستراتيجية العربية، هذا إذا كان هناك بالفعل تخطيط استراتيجي عربي.