وكأني أدقق النظر في بللورة السياسة الأمريكية السحرية.. حاولت أن أستشرف اتجاهات الريح، قبل أن تهب الريح، لعلي أصل إلي جسم سياسة جورج بوش الصغير في رئاسته الثانية، بعظامها قبل لحمها.. تابعت حدثين مهمين عظيمي الدلالة وثراء الاستقراء: خطاب بوش الذي افتتح به رئاسته الثانية رسمياً، الخميس الماضي.. وتصديق مجلس الشيوخ علي ترشيح كوندوليزا رايس وزيرة للخارجية الأمريكية، وأشخاص كبار معاونيها الذين اختارتهم كفريق وزاري، لكل سيرته وصورته.. لكني خرجت من أحشاء الحدثين بشيء أكبر قليلاً من خفي حنين..! في خطابه الذي أعيدت كتابته 20 مرة، واستغرق إلقاؤه أمام الكونجرس بمجلسيه 20 دقيقة، لم يعتذر بوش عن أي خطأ سياسي ارتكبه في فترة رئاسته الأولي.. تنصل من كل الأشياء، حتي مجرد الأسماء.. ولا سيرة لمفردات مثل الإرهاب، العراق، أفغانستان، 11 سبتمبر.. وخرجت أفكاره حول الموضوعات المتنازع عليها، سواء في السياسة الخارجية أو الداخلية، بيضاء من غير سوء.. وبدلاً من ذلك، عرج علي بعض العقائد الطوباوية المثالية: "إن أعمق معتقدات أمريكا تعانق الآن مصالحها الحيوية، لتصبح شيئاً واحداً: الحرية".. وتعهد بتوسيع نطاق الحرية لتشمل العالم كله.. كي يتحقق الأمل الأعظم للسلام علي الأرض.. وقد بدت كلماته في عيون نقاده وكأنها رجع الصدي لما ردده كل من الرئيسين ودرو ويلسون وجون كيندي. وهما يتساءلان أمام الكونجرس: "ماذا نستطيع أن نفعله معاً.. لكي نحقق حرية الإنسان؟!" عصروا كوندوليزا رايس في مجلس الشيوخ.. سألوها: في عملك في وزارة الخارجية، هل تساندين سياسة بوش في الانغلاق والتصرفات السياسية الأحادية، وعدم الإصغاء لآراء الآخرين؟ أجابت: لعل من أهم أهدافي أن أصلح الروابط مع حلفائنا التقليديين التي تمزقت "Frayed" نتيجة لحرب العراق. ودليل ذلك أن أول رحلة يقوم بها الرئيس بوش في فترة رئاسته الثانية، سوف تكون زيارة لأوروبا أواخر فبراير فسوف يلتقي المستشار الألماني جيرهارد شرودر، عقب زيارة لرئاسة الناتو والاتحاد الأوروبي في بروكسل.. يستقبل كذلك الرئيس الفرنسي جاك شيراك في واشنطن قبل زيارته الأوروبية أو بعدها.. لكن رايس تواضعاً وكتماناً لم تقل أنها مهندسة هذه الزيارة التصالحية! ليس من طبيعة بوش أن يعترف بخطأ محدد.. سألوا رايس في مجلس الشيوخ عن أهم أخطاء السياسة الخارجية التي ارتكبتها الإدارة الأمريكية، في فترة الرئاسة الأولي لبوش، نفت بثبات وقوع أية أخطاء.. ثم عادت تحت ضغط الأسئلة الكاشفة فاعترفت بوقوع "بعض الأخطاء".. دون أن تسميها، أو تبدي رأيها فيها! رسالة تحريض واضحة! طالب بوش في خطابه حكام العالم بأن يثقوا في المحكومين.. لكنه لم يصل في ذلك إلي ضرورة اعتماد الحكام علي الاستفتاء العام "Plebiscites" بين الجماهير! واستشهد بوش برؤية للمنشق السوفيتي ناتان شارانسكي.. منطوقها: "إن الحقوق تؤمنها المعارضة الحرة، ومشاركة المحكومين".. لكنه لم يحدد ماذا يعني ذلك بالنسبة لأمريكا في تعاملها اليومي مع دول مثل روسيا والصين وباكستان، والدول العربية مجتمعة ومنفردة! علي أن ثقافة كوندوليزا رايس وخلفياتها الروسية تبدت جلية علي مضمون الخطاب وأركانه الأساسية! في الخطاب الافتتاحي لرئاسته الأولي 20 يناير ،2001 وعد بوش الشعب الأمريكي بأن يبني بهم ولهم أمة واحدة من العدالة والفرصة.. لكن الأمة الأمريكية لم تلبث أن أصابها التفتت والتشظي علي صخور حرب العراق!.. كان منافسه السيناتور جون كيري يجلس أمامه بين الحضور، عندما نظر إليه بوش العين في العين، وهو يقول: "نحن أعلم بالانقسامات التي أحدثتها الانتخابات، والتي يجب أن تلتئم جراحها.. وسوف أجاهد لتحقيق هذه الغاية بإيمان خالص"!. وهو يتحدث عن أنظمة القمع والعدوان "Oppressive and aggressive" في العالم، أعلن بوش: لن يفرض نظام الحكم الأمريكي علي من لا يرغب فيه، معترفاً بأن نفوذ أمريكا في العالم ليس بغير حدود.. لكنه عاد فأرسل رسالة تحريض واضحة إلي المنشقين والمقموعين: "عندما تنتفضون من أجل حريتكم.. سوف نقف معكم"! ولا أدري ماذا لو جري العكس، وهب العالم لنجدة المنشقين الأمريكيين الذين يحاصرون البيت الأبيض بهتافاتهم: "بوش كذب.. مات الألوف".. "حاكموا الطاغية".. "لم أخولك سلطة الحكم.. في الانتخابات"! في الجملة: كان خطاب بوش قصيراً، وقاصراً، بكل مقاييس السوابق التاريخية لكلمات الرؤساء في افتتاح فترة الرئاسة الثانية.. ويؤكد مساعدو الرئيس وكأنهم يعتذرون أن الرئيس سوف يكون أكثر تحديداً لبرامج فترة رئاسته الثانية في خطاب "حالة الاتحاد" الذي يلقيه أمام الكونجرس الأربعاء 2 فبراير المقبل!..