لا شك بأن الخسارة كانت شديدة الوطأة علي تركيا بعد أن سقطت في وحل الأزمة السورية، فالبون شاسع بين ما كانت عليه تركيا قبل أن تورط نفسها في هذا المستنقع وما أصبحت عليه الآن، ففي أعقاب انفتاحها علي الدول العربية تصدرت تركيا المشهد في المنطقة وكان لها دور طليعي، ورأينا كيف أن اقتصادها قد شهد ازدهارا كبيرا وكيف كانت الشراكة التركية السورية التجارية والسياسية تتبوأ محورا أساسيا في نظام تركيا الاقليمي الجديد وهي الشراكة التي ما لبثت أن توسعت لتضم عددا من الدول العربية من خلال منطقة تجارة حرة ولكن سرعان ما انهارت في أعقاب انهيار الشراكة مع سوريا علي إثر تبني تركيا السيناريو الأمريكي الذي يهدف إلي إسقاط الدولة في سوريا. قبل الانزلاق إلي حافة الهاوية قامت تركيا بأكثر من دور في المنطقة رأيناها عندما سعت للتوسط بين سوريا وإسرائيل لكي يمكن لهما الدخول في مفاوضات، رأيناها عندما حاولت حل مشكلة الملف النووي الايراني من خلال صفقة تفاوضت عليها مع البرازيل وعرقلتها أمريكا للأسف، رأيناها في ظل "اردوغان" الذي كان يتمتع باحترام كبير في الخارج.. سلسلة إيجابيات وضعت تركيا في صدارة المشهد في المنطقة وللأسف تغيرت الصورة اليوم كلية بعد أن تم استدراجها إلي السيناريو الأمريكي فكان أن ألحقت الضرر بنفسها لاسيما بعد أن توقفت حركة النقل عبر سوريا وتراجعت علاقاتها مع ايران حيث إن كلا منهما يتبني موقفا معارضا للآخر حيال ما يحدث في سوريا كما توترت علاقاتها مع العراق بسبب روابط تركيا مع إقليم كردستان. كان بمقدور تركيا العزف علي نغمة أخري غير النغمة الأمريكية التي ورطت كل من أذعن لأجندتها المعادية لسوريا، كان بمقدور تركيا أن تلعب دور الوساطة التوثيقي بين النظام السوري وبين المعارضة بدلا من أن تنحاز إلي طرف علي حساب طرف آخر وتدعمه بالمأوي والتدريب ونقل الأموال والاسلحة والمعلومات الاستخباراتية. تركيا انقلبت 180 درجة ففتحت الأبواب علي مصاريعها لما يسمي بجيش سوريا الحر وللمئات من الجنود المنشقين وتمادي أردوغان في غيه عندما اسقط الشرعية عن النظام السوري ووصف الدولة بأنها إرهابية.. صحيح انه نال استحسان دول عربية دخلت معه علي خط المعترك ضد سوريا مثل قطر والسعودية ومصر في ظل رئيسها "مرسي" ولكنه في الوقت نفسه تسبب في تعقيد علاقات تركيا مع إيران وروسيا اللتين تدعمان نظام الأسد. ما يجب أخذه في الاعتبار أيضا المعارضة الشعبية المتنامية داخل تركيا ضد أي عمل عسكري تقوم به حكومة أردوغان هذا بالاضافة الي انه يتعين علي تركيا أن تظل حريصة علي عدم تعريض شعبيتها في العالم العربي للخطر لاسيما أن إرث الامبراطورية العثمانية مازال حاضرا في الأذهان وفضلا عن ذلك فإن تركيا لا يمكن أن تصل بها مغامرة التدخل في سوريا إلي الحد الذي يحملها علي أن تفتح معه جبهة حرب طائفية طويلة. تركيا لم تر إلا بعين واحدة وسارت مع التيار الذي جرفها إلي مرفأ مليء بالكثير من التداعيات التي ستنعكس عليها سلبا بعد أن انتقلت من النقيض إلي النقيض ونتساءل: هل غاب عن تركيا أنها حتما ستدفع ضريبة تدخلها في سوريا واسهاماتها الكبيرة في محاولة قلب نظام الحكم من خلال التحريض والدعم اللامحدود للمعارضة المسلحة فكأنها حرضت عمدا علي الفتنة ورسخت الطائفية وهو الأمر الذي ستكون له تداعياته عليها في الداخل؟ هل غاب عن تركيا أن اسقاط النظام في سوريا سيفتح الباب علي مصراعيه أمام تفتيت الدولة بعد أن نجح الغرب في ترسيخ الطائفية وإثارة الفتنة بين السنة والعلويين؟ وهنا لا يمكن أن يغيب عن أحد أن مساعي دول إقليمية مثل تركيا وأخري دولية تتجه نحو تنفيذ مخطط التقسيم والبداية قد تكون مدينة "حلب" من خلال جعلها تتمتع بالحكم الذاتي هذا بالاضافة إلي أن تركيا بموقفها الحالي مما يحدث في سوريا قد ساعدت الغرب علي تحقيق الهدف الذي يسعي إليه منذ سنوات ألا وهو تفكيك المحور الذي يضم سوريا وإيران وحزب الله. تركيا تم استدراجها إلي المستنقع السوري فورطت نفسها وكان عليها أن تنأي بنفسها بعيدا عنه ولكنها وإمعانا منها في إرضاء الغرب وتتصدره أمريكا غرقت في وحل الأحداث رغم أن المعارضة في الداخل ظلت ضد انسياق تركيا الأعمي نحو هده الهوة السحيقة. ولقد رأينا اليوم كيف أن زعيم حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك في عشرينيات القرن الماضي يبعث إلي "أردوغان" يطالبه بضرورة الوقوف إلي جانب سوريا كدولة ذات سيادة وحماية وحدة أراضيها وإحلال السلام والمصالحة ووضع حد للعنف ويكفي التداعيات التي لحقت بتركيا من جراء مشاركتها في الحملة المضادة للدولة والتي طالت اقتصادها وتجارتها وسياحتها، وتعرضت بسببها إلي حملة انتقاد واسعة في الداخل بعد أن زادت معاناتها. ليت تركيا اليوم تتدارك ما حدث وتتراجع عن موقفها المعادي للنظام السوري ومن ثم تعتمد سياسة جديدة أكثر حيادية تسعي من خلالها لرأب الصدع بين النظام السوري والمعارضة وتقوم بدور توثيقي بين الطرفين بهدف حل الأزمة سياسيا وعبر طاولة الحوار ليت تركيا تتدارك ما حدث وتمديدها إلي مبعوث الأممالمتحدة والجامعة العربية "الأخضر الإبراهيمي" في مهمته الحالية كي يحقق حلاً سلمياً للأزمة السورية. يتعين علي تركيا إصلاح الجسور مع سوريا الدولة فهذه هي البوابة التي تستطيع من خلالها أن تملك الفكاك من براثن الوحل الذي غرقت فيه حتي الثمالة نعم فإصلاح الجسور مع سوريا هو الذي سيمكن تركيا من أن تستعيد ثقلها في المنطقة بما يؤهلها للقيام بدور طليعي يعيدها ثانية إلي صدارة المجد..