لا شك أنها ذكري سيئة تلك هي الذكري العاشرة ليوم الثاني من يولية عام ،1997 ففي ذلك اليوم بدأت الأزمة المالية الآسيوية بانهيار قيمة العملة التايلاندية "باهت" ومن تايلاند انتشرت الأزمة سريعا لتضرب كلا من اندونيسيا وماليزيا وكوريا الجنوبية كما ألقت بظلالها القوية علي هونج كونج والفلبين وسنغافورة وتايوان ولم تترك بلدا في شرق وجنوب شرق آسيا دون أن تؤذيه وشهد العالم موجة هائلة من انسحاب النقود الساخنة بسرعة وعلي نطاق لم يسبق له مثيل من البورصات والبنوك الآسيوية علي حد سواء والأمر المدهش كما تقول مجلة "الايكونومست" إن الأزمة الآسيوية حدثت بعد نحو ثلاثة عقود كانت الاقتصادات الاسيوية خلالها تتمتع بمعدل تضخم منخفض وموازنات لا تعاني من العجز إلي جانب معدل نمو قياسي بلغ 8% سنويا في المتوسط. وإذا كانت الأزمة المالية الآسيوية قد قتلت بحثا وعرف الناس كل ابعادها وملامحها واسبابها فمن المهم ان نذكر الآن ان سرعة تعافي آسيا من هذه الأزمة ترجع بالدرجة الأولي إلي أن اسبابها كانت مالية في الأساس ولم تكن تتعلق بالإنتاجية بل يمكن القول إن الأزمة قد حدثت برغم الزيادة في انتاجية العامل الآسيوي آنذاك حتي عن مثيله في الغرب ولعل هذه النقطة بالذات نقطة زيادة الإنتاجية - هي التي قادت آسيا إلي الانتعاش مرة اخري في غضون خمس سنوات فقط أو أكثر قليلا في بعض الحالات، والآن بعد عشر سنوات من الأزمة اصبحت آسيا مرة اخري تنمو بمعدل 8% سنويا خلال السنوات الثلاث الأخيرة واصبح واضحا أن هناك تعافيا كاملا من تلك الأزمة بعد أن قام الآسيويون بعملية إعادة هيكلة شاملة لاقتصاداتهم، ومع ذلك فهناك من يتوقع أو يتخوف من احتمال أن هناك أزمة اخري في الطريق فمن هو الذي علي صواب؟ الحقيقة أن المتفائلين يبالغون في تفاؤلهم، فمعدل النمو الآسيوي المرتفع يرجع إلي ما تحققه الصين والهند من نمو قياسي فهما الأسرع والأكبر، أما الدول الرئيسية التي تأثرت بأزمة 2 يولية 1997 فإن معدل نموها الراهن حسب أرقام بنك التنمية الآسيوي لا يتجاوز 5% سنويا في المتوسط والسبب الرئيسي وراء ذلك هو عدم تحسن مستوي الاستثمار في تلك الدول فالانفاق الرأسمالي في الدول الخمس لا يمثل سوي 24% من إجمالي الناتج المحلي حاليا بعد أن كان 35% في عام 1995 في حين أن هذا المعدل يناهز 40% في الصين وهو معدل يفوق مثيله في الدول المتقدمة التي تكون فرص الاستثمار فيها أقل. وإذا نظرنا إلي المستوي الداخلي فسنجد أن البلدان الآسيوية في وضع سيئ وان الشركات محجمة عن التوسع في الانفاق الاستثماري وان البنية الأساسية في دول مثل تايلاند واندونيسيا ضعيفة وان نوعية الحكم السائد في تلك البلدان في تدهور وان هذا كله يؤثر علي مناخ الاستثمار.. أما علي المستوي الخارجي فإن المتفائلين علي حق لأن المنطقة تتمتع باحتياطيات أجنبية أعلي وديون أقل ولم تعد عرضة لأزمة في ميزان المدفوعات مثلما كانت منذ عشر سنوات، ومن هنا تري مجلة الايكونومست أن تكرار أزمة 1997 مرة اخري أمر مستبعد ولكن هناك امكانية في رأي بعض الاقتصاديين لحدوث أزمات مالية من نوع مختلف مثل ارتفاع ثم انهيار قيمة الاصول. وعموما فإن الحكومات تحاول الاحتفاظ بعملاتها عند سعر صرف منخفض لكي تزيد الصادرات وهذا يحدث رغم أن إجمالي الاحتياطيات الأجنبية الاسيوية قفزت من 250 مليار دولار عام 1997 لتصبح 5.2 تريليون دولار حاليا واصبحت بذلك زائدة عن الحد إلي جانب أن سياسات البلدان الآسيوية تزيد من كمية النقود المتاحة للتداول ومن كمية الائتمان ومن الضغوط التضخمية وهو يؤدي إلي حدوث فقاعة في أسعار الاسهم وقطاع الاسكان ويوجد مناخا مواتيا لحدوث أزمة مالية من نوع جديد، ولكن أصحاب هذا الرأي لا يضعون في اعتبارهم أن كل الدول في شرق اسيا عدا هونج كونج قد فكت عملتها من الارتباط بالدولار وان أسعار عملاتها قد زادت كثيرا ولم يعد ممكنا القول بأنها مقومة بأقل من قيمتها وان أسعار الاسهم في هذه الدول وان كانت قد زادت زيادة كبيرة فإن زيادتها حدثت بعد انخفاض باستثناء الصين ولهذا فإن بورصات آسيا لا تعيش حالة فقاعة رغم أن بورصة الصين ربما كانت تعيش مثل هذه الحالة. ولذلك فإن هناك من يري أن الصين يمكن أن تكون مصدر الأزمة القادمة، لقد كانت الصين أقل تأثرا بعواقب الأزمة الآسيوية عام 1997 ولذلك فإنها كانت الطرف الوحيد الذي لم يتعلم الدرس الصحيح من تلك الأزمة فأبقت سعر عملتها شبه ثابت واقامت قدرا هائلا من الاحتياطيات الأجنبية ولكن تعرض الصين لأزمة في بورصتها لن تكون له تأثيرات كبيرة علي جيرانها. يبقي أن نقول إن الدول الآسيوية الاخري مطالبة ليس فقط بالمحافظة علي احتياطياتها الأجنبية العالية وانما أيضا بأن تجعل اقتصاداتها أكثر مرونة وقدرة علي التكيف وكذلك بنوكها ونظمها المصرفية أكثر قابلية للتعامل مع اية احتمالات لأزمة قادمة قد تنجم كما حدث مع الأزمة السابقة عن حركة النقود الساخنة.