الموت علينا حق.. لاشك في ذلك.. لكن هناك أناسا من الصعب علي المرء ان يتصورهم وقد طواهم الموت.. لفرط ما فيهم من حيوية وحب للحياة.. هكذا كان زميلنا الراحل سعيد غزلان. يقتحم المكان كعاصفة من المرح والصخب.. يحيي هذا ويشاكس ذاك.. ويروي آخر نكتة بطريقة لا تملك معها إلا أن تضحك مهما كنت مهموما.. ويقص نادرة عن المؤتمر الذي كان قادما لتوه من تغطيته.. وكيف تصرف أحد المسئولين أو رجال الأعمال أو الصحفيين.. أو عن ارتباك زميل جديد مثلا ازاء موقف مفاجئ.. ثم يتحول الي شرح بسيط وردود للزميل الجديد عن كيف ينبغي ان يتصرف في هذا الموقف او ذاك.. والجرأة والثقة اللتين ينبغي أن يتحلي بهما في تعامله مع رجل الأعمال أو المسئول، لأن الصحفي يمثل الجريدة.. ولأن الإعلام قوة كبيرة يحتاجها رجال الأعمال والمسئولون "ولاّ إيه يا جماعة؟" هكذا ينثني بالسؤال الي الحاضرين ليشركهم في الحديث مهما تكن مشاغلهم.. فلم يكن سعيد غزلان يحب ان يفعل أي شيء وحده.. وحتي ولو كان معه "ساندويتش" واحد فهو يحاول ان يقتسمه مع الحاضرين: "خد والله.. الأكل كتير أهه"!! خمسة عشر عاما عاشها بيننا.. مرحا وبشوشا طوال الوقت يدخل الجريدة بابتسامته ونكاته وتحياته التي ينثرها علي الجميع.. بسيطا ومتواضعا كطفل.. ودودا مع الجميع: من عمال النظافة حتي كبار المحررين.. يسأل عن موعد زفاف هذا.. ويؤكد علي ضرورة دعوته "طبعا هاجي بابني.. أمال إيه؟" ويسأل عن أطفال ذاك ومن كبر؟ ومن نجح؟ ويدهشك بتذكره لاسمائهم.. وحينما تبدي له دهشتك أو إعجابك يقول لك بتواضع وطيبة: "أمال إيه يا فلان؟ ده ما حدش هاياخد منها حاجة غير المعروف". لكن هذا الشخص البسيط الطيب كان أبعد ما يكون عن السذاجة.. فقد كان واسع الخبرة بالدنيا وأهلها.. دقيق الملاحظة بشأن البشر وسلوكهم بصورة مدهشة.. يملك بوصلة إنسانية سليمة.. ويعرف للناس أقدارهم جيدا.. ومن يستحق الاحترام.. ومن لا يستحق سوي الاستخفاف مهما تكن "أهميته" فيقول لك بصراحة واختصار: "ده واد جدع" أو "ده راجل محترم" أو العكس.. ولم يكن يبالي بالثمن - الفادح أحيانا - الذي يمكن أن يدفعه بسبب هذه الآراء الصريحة القاطعة. كما كان مستعدا للقتال بشراسة من أجل كرامته أو حقوقه.. ويقول لك بحسم: "إلا رزق عيالي.." وشأن كل أب مصري محترم فقد كان مستعدا للكدح الشاق في أماكن عديدة ليوفر لأبنائه حياة لائقة. وحينما أنشب المرض اللعين مخالبه في كبد سعيد غزلان تكشفت جوانب جديدة مثيرة للإعجاب والاحترام حقا في شخصيته.. فقد واجه المرض برجولة وصبر نادرين.. وكان يتحدث عن "الورم" وانتشاره كأنه يتحدث عن مرض بسيط.. ويهتم بأحوال محدثه أكثر مما يهتم بأحواله هو رغم خطورتها.. وكنت أحدثه كثيرا أثناء الصيف والخريف الماضيين فيحدثني عن دخول المستشفي لأخذ عينة من كبده كأنه مشوار إلي طبيب الأسنان! أو عن دواء جديد فرنسي يمكن أن يقضي علي المرض خلال شهور قليلة.. ويروي النكات أو ينثني للحديث عن عارض صحي تعرضت له - لا يستحق اهتماما جديا مقارنة بما لديه - طالبا مني أن أهتم بعلاجي!! أو يطلبني خصيصا للاطمئنان علي صحتي.. أو للدردشة في أمور عامة رافضا الخوض في حديث المرض. وحتي حينما اشتد عليه المرض، في أيامه الأخيرة كان تماسكه محل احترام كل من رآه رحمه الله. وبقدر ما عاش في صخب.. رحل سريعا في هدوء.. وطوي الموت عاصفة المرح والضحك والحيوية.. رحل سعيد غزلان في أيام مباركة قبيل عيد الأضحي.. فلم يعرف برحيله الكثير من زملائه ومحبيه إلا بعد أيام.. ولو عرفوا لاحتشدوا جميعا ليرافقوه في رحلته الأخيرة. رحم الله سعيد غزلان وطيب ثراه.. وجزاه عن شبابه وصبره علي آلام المرض خير الجزاء. وعزاء لأهله وأسرته الصغيرة وعزاء لأصدقائه وزملائه.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.