تقول النكتة المصرية القديمة إن طابورا من "المغفلين" سقطوا في حفرة!.. ورغم أن هذه النكتة أضحكتني كثيرا عندما كنت صغيرة، حيث كنت أتخيل منظر هؤلاء "المغفلين" يسقط الواحد منهم تلو الآخر في نفس الحفرة، دون أن يتعظ مما حدث لسابقه، إلا أن عودتها للذهن الآن تمتزج بمرارة في الفم وغصة في الحلق وتسبب وجعا في القلب، وسط ما نشهده من تردي شعوبنا العربية واحدا تلو الآخر في نفس الحفرة المهلكة التي طالما رددنا وردد قبلنا كثيرون تحذيرات بشأنها. الجميع يتجه الآن مغمض العينين مغيب العقل مسلوب الإرادة نحو هوة الطائفية البغيضة. ففي فترات المد القومي بعد انتصار حركات التحرر الوطني وفي الستينيات من القرن العشرين، كنا نتعلم في دروس التاريخ، كيف فشلت سياسة "فرق تسد" التي اتبعها الاستعمار القديم لبذر بذور الفتنة بين أبناء الوطن الواحد، وكيف نجحت اللحمة المتينة بين نسيج الوطن في دحر أطماع المستعمرين. وحلقت بنا الأحلام إلي تمتين اللحمة بين أبناء الوطن العربي من المحيط إلي الخليج، وكثر الحديث عن الوحدة العربية والتكامل العربي حتي لقد وصل الحلم بالبعض إلي اختيار اسم الدولة العربية الواحدة، فتحدث عن "الولايات العربية المتحدة"!.. وإذا بالحلم يسفر بعد حوالي نصف القرن من الأناشيد الحماسية والخطب الرنانة عن هوة سحيقة، تهددنا جميعا بالوقوع فيها واحدا بعد الآخر، بعد أن انتشرت نزعات القطرية الشعوبية المريضة، وحلت المشاعر السلبية محل روح المحبة النابعة من شعور جمعي بالانتماء لوطن واحد "من المحيط الهادر إلي الخليج الثائر". فمن يلقي نظرة سريعة علي منتديات الانترنت العربية التي يؤمها شبابنا وأبناؤنا، سيذهل من كم المشاعر السلبية المتبادل بين أبناء الشعب العربي الذي كنا نحلم به واحدا. ففي هذه المنتديات حيث يتستر الجميع وراء أسماء مستعارة، لا تكثر المشاركات ويحلو الحديث إلا عند نشر خبر عن حالة انحراف "أخلاقي بالذات" ظهرت في هذا البلد أو ذاك، فتسن أنياب الشماتة ويتباري الجميع في سب أبناء الشعب الذي وقعت فيه الحادثة، ناسبين إليه كل العيوب الأخلاقية الممكنة، كما لو أن مرتكب الحادث ارتكبه بسبب انتمائه لجنسية معينة، وليس لأسباب نعرفها جميعا ونعاني منها جميعا من المحيط إلي الخليج سواء كانت أسبابا اجتماعية أو ثقاية أو اقتصادية، وتستحق التصدي لها بالبحث والدراسة والسعي للعلاج لا بالشماتة، وكل يحاول انكار وجودها في مجتمعه والصاقها بغيره. فمن حوادث اختطاف واغتصاب تنشر علي البلوتوث في السعودية أو حوادث الاعتداء علي الخادمات في عدد من دول الخليج.. إلي حادثة التحرش الجنسي وسط زحام إحدي دور السينما في القاهرة، إلي حوادث جرائم الشرف في الأردن وفلسطين، إلي حوادث اغتصاب في دارفور.. وآخرها خبر نقله موقع العربية نت عن حالات اعتداء علي محارم. ما أن ينشر خبر عن حادثة كهذه، إلا ووجدت من ينشر النار في الهشيم ويدخل هذه المنتديات متسترا بالاسم المستعار لينهال سبا علي شعب بكامله انحرف بعض أبنائه، ويتناسي الجميع أن الله لم يوجد بعد شعبا من الملائكة، واننا جميعا في قارب واحد، نتشارك نفس الواقع ونفس الثقافات ونفس الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مع تفاوتات نسبية، تجعل البعض يعلن دون حدود عما يحدث فيه من تجاوزات ويكشفها إيمانا بأن حل المشكلات يكمن في كشفها ومواجهتها، بينما البعض مازال يتحفظ علي نشر العيوب إيمانا بفكرة الستر.. لكن الحصيلة في النهاية واحدة والواقع واحد في العالم اجمع وليس منطقتنا فحسب. ولأن سموم الكراهية لا تقف عند حد، فهي تتجاوز المشاعر القطرية لتجدها تستشري بين أبناء القطر الواحد، بدأت أولا بالنكات والسخرية من أبناء أقاليم معينة "الصعايدة والبورسعيدية مثلا في مصر، وأبناء حمص في سوريا، وأبناء الخليل في فلسطين وفي السعودية أهل مكة وأبناء نجد والقطيف.. وقس علي ذلك التنابز والسخرية بين أبناء الأقاليم في كل قطر عربي"، ثم انتقلت إلي الطوائف الدينية أو المذهبية أو العرقية، فإذا بالنار تشتعل بين العرب والأكراد ثم بين الشيعة والسنة في العراق، ورغم أن كثيرين رددوا في بداية اندلاع الأزمة "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها" وتحدث كثيرون أيضا عن سياسة "فرق تسد" ومخططات الاستعمار، وضرورة توحيد الصفوف، إلا أن "الطابور" مازال يسير مغيبا نحو نفس "الحفرة"، فإذا ببوادر فتنة بين السنة والشيعة في لبنان، ونذر فتنة بين المسلمين والمسيحيين تطل برأسها كل حين منذ السبعينيات في مصر حتي الآن، وتقارير تنشر مؤخرا للتحذير من بوادر ظهور ما يسمي بخطر "التشيع" في مصر، وفي السودان الذي مازالت جراحه تنزف من فتنة الصراع بين الشمال والجنوب ومن فتنة دارفور وفتنة تطل برأسها في الشرق. وهكذا تسري سموم الفتنة، لنتساقط دون ان ندري واحدا وراء الآخر في نفس الهوة.. ألا من فرصة نلتقط فيها الأنفاس، ونعيد فيها الحسابات لنحاول تنشيط غدد المحبة في نفوسنا لتطلق ترياقها المعالج من سموم الكراهية التي تؤذي الجسد الواحد.. وتمرض نفوس الكارهين بأكثر مما تصيب المكروهين؟ اتمني أن يراجع كل منا نفسه مع بداية عام جديد يتزامن مع عيد الأضحي المبارك وعيد الميلاد المجيد، وأن يعودها علي محبة خلق الله جميعا علي اختلاف ألوانهم وأجناسهم ومللهم ونحلهم، ويسعي لتخليصها بقدر الإمكان من مشاعر سلبية تمرر النفس وتميت القلب، ويحرص علي توجيه هذه المشاعر بقوة نحو الطامعين الحقيقيين في أوطاننا، مدركا أننا نواجه بالفعل مدا استعماريا طامعا في منطقتنا، يستلزم تنحية مخلصة وصادقة لكل الخلافات القطرية والدينية والمذهبية وتوحيد الصفوف لصد هذه الأطماع.. وكل عام وأنتم بخير. [email protected]