مسكين، الشعب المصري! إنه مصاب بآفة غريبة اسمها "اللت والعجن" في توافه الأمور. ولا شفاء منها إلا باحتواء فراغ هائل يعيش فيه الناس أو شد انظارهم لمشروع قومي يستفيد من مخزون طاقة لديهم. وربما لا يوجد في العالم شعب يتلذذ بالكلام مثل الشعب المصري. وحين لا يكون للناس دور، فإنهم يتكلمون ويهمسون. ذلك أن الشعوب الجادة كالشعب الألماني يتكلم ولكنه لا يلت أو يعجن! نحن في مصر نجيد فن اللت والعجن. نتكلم حتي يغمي علينا من الكلام! لقد جمعتني الصدف بمجموعات من الناس عبر ظروف مختلفة وموضوعات شغلت بالهم، وربما لم اتكلم ولو بهمسة ولكني لاحظت أشياء تستحق الرصد، انهم يتكلمون جميعا في وقت واحد. لا أحد يسمع الآخر. الحناجر فائرة، وعروق الرقاب نافرة. والكلام يثير الغثيان لأنه لت وعجن ولا تخرج منه بأي جديد، انهم يعودون لأول السطر عشرين مرة. * * * هناك حالة "زعامة" تسيطر علي الناس عندما اكتشفوا ان الصوت العالي مهم في هذا المجتمع. ولذلك قلما يكون النقاش هادئا ويجري بأسلوب متحضر ويراعي آداب الحوار. انه غالبا صراخ في صراخ، لا تستطيع من خلال هذه "السويقة" ان تفهم شيئا، ولو كنت معي فسوف تلوذ بالصمت مثلي! الكل سواء، نخبة أو شارع أو مجلس شعب. وفي أحد أفلام الريحاني كتب بديع خيري حوارا بديعا: "انت مابتنطقش ليه يا راجل.. مستني ايه.. حااعملك دعوة علي كارت فضي.. طيب انا ساكت وبسمعك.. يعني حد منعك من الكلام؟ أنا مطرطق وداني علشان اسمعك. افتكر انك شايف وداني مطرطقة. لازم تتكلم بأه. اتكلم يا راجل، قول رأيك. هوه الكلام بفلوس؟ أنا باسمعك اهه. هوه انا حاعزم عليك بالكلام؟ ويرد الريحاني: هو أنا لاقي خرم ابره اتكلم منه؟!". اننا نتكلم في أي موضوع يقفز إلي السطح دون ان نتعمد مصادرة كلام الآخرين، لاننا في واقع الأمر نحب ان نتكلم وحدنا ونلت ونعجن وحدنا وننفرد بالكلام ونحب أصواتنا! وليس مهما ان يسمعنا أحد. وليس مهما ان نطرح فكرة أو نضيف معلومة، ومن هنا صار اللت والعجن هو "لغة غوغائية" كما يطلق عليها الراحل د. أحمد خليفة أحد رواد علم الاجتماع. ولما كان الكلام متعة بين شفتي صاحبه فلا مانع من إشاعة أو اثنتين أو نميمة أو نميمتين ينفرد بها المتكلم ولا يهم التحقق مما يقال لأنه لا توجد مساحة للعقل ليستوعب أو نبرة منطق للحكم علي ما يقال. والأدهي من ذلك ان البعض في حمي الكلام يزايدون ويؤلفون ويخترعون. ووسط مناخ غوغائي يمرر هذا الصياح السم كله! * * * إننا شعوب عربية تستخدم ألسنتها أكثر مما تعمل عقولها ولهذا نخطئ في القول، لأن اللسان ليس معصوما. وحين نخطئ في القول نجد الجلادين جاهزين للذبح! البعض يفسر الرغبة الحارقة للكلام بأنها نتيجة عجز جنسي. والبعض يفسرها بأنها البحث عن دور. والبعض يفسرها بأنها فراغ لابد من ملئه. وفي غيبة العقل وحمي الصياح والكلام في صوت واحد، تتوه الحقيقة ويتولد الصراع وتتناقض الاحكام علي أي حدث أو حادث. * * * نحن أمة تعشق الكلام ولنا تاريخ في "أسواق عكاظ"، لكننا لم نتعلم في المدرسة كيف "نصغي". ولو تفضلنا واصغينا، نقاطع وتعلو مداخلتنا ويضيع الكلام ويأخذ مساحة من أكسجين غرفة أو قاعة. اننا أيضا مصابون بالرغبة في تشويه الآخر باحكام عشوائية وربما كان لحزب أعداء النجاح سبب قوي وراء ذلك وربما كانت الأسباب الاقتصادية وراء هذا العبث حيث تريد الغوغائية النيل من الحكومة. وربما كانت الأسباب "تهميش" البشر. * * * لهذه الأسباب المجتمعة، سئمت الكلام، حتي صرت أتوق "لكلام طازة" يثير شهيتي للكلام وسط مناخ تحكمه هذه المعادلة: متكلم يقابله مستمع. وليت الكلام هدفه، "نقلة" حضارية لهذا الشعب.