دعوا الدين لله تواجه مصر الآن خطرا ماحقا بعد أن قرر مجلس الشعب أن يكتب الدستور منفردا، وهو منفرد لأنه سوف يشكل نصف اللجنة التي ستكتبه ويختار النصف الآخر. وتضع جماعتا الإسلام السياسي من حزبي الحرية والعدالة وحزب النور اللتان فازتا معا بأغلبية المقاعد تقليدا جديدا في كتابة الدساتير لا ينتمي للعصر الذي نعيش فيه بأي صلة ، وهو أن تتولي أغلبية في البرلمان كتابة هذا الدستور علي أساس مرجعيتها الدينية وليس مرجعية المواطنة والانتماء الوطني الجامع. والمرجعية الدينية هي الباب الملكي للطغيان والانفراد بالسلطة والعدوان علي الحريات العامة. فالدستور هو الوثيقة التي يحتكم إليها المواطنون جميعا بصرف النظر عن الدين أو الجنس أو الطائفة أو الاعتقاد أو الانتماء السياسي أو اللون أو الانتماء العرقي ، ويسترشد المواطنون كافة بالدستور في بناء علاقاتهم الاجتماعية والسياسية وهو ما توصلت إليه البشرية بعد عصور مظلمة طويلة خاضت فيها تجارب مريرة وصولا إلي الحروب الدينية، والمجازر التي ارتكبتها طوائف دينية استندت لقوة المال والسلطان لإقصاء طوائف أخري عبر العنف المسلح الذي عرفت فيه البشرية أياما دامية. حدث ذلك كله في العصور الوسطي التي يبدو أن من حصلوا علي الأغلبية في مجلس الشعب يريدون أن يجرونا إليها لأنهم يرون أن مستقبلنا في ماضينا، ويروجون الأوهام حول هذا الماضي الذي اعتبروه ذهبيا بينما كان هذا الماضي- كما أثبت البحث العلمي- مليئا بالصراعات علي المصالح والغنائم، وبناء علي هذه المصالح والغنائم جري قتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين، وشهدت عصور الخلافة ذاتها فتنا وحروبا دامية. وليس صحيحا أن الذين يريدون أن يؤسسوا الدستور علي المرجعية الدينية يبتغون إقامة العدل أو يحافظون علي القدر الضئيل من الحريات العامة التي توصل إليها المصريون عبر نضال شاق، وإنما هم يبتغون حماية مصالح اقتصادية ومالية هائلة نشأت عبر علاقات معلنة أو خفية مع الدول الدينية البترولية في الخليج والتي تلعب أدوارها لصالح المشروع الأمريكي في المنطقة، وهو مشروع يحمي مصالحه واستثماراته عبر قمع الشعوب وتعطيل تطورها الديمقراطي، وكبح قدرتها علي السيطرة علي مصيرها. وليس هناك ما هو افضل من خلط الدين بالسياسة، وتحويل الخطأ والصواب إلي حرام وحلال، وإقامة محاكم التفتيش في القلوب والعقول لكبح حركة تطور الشعوب وكفاحها من أجل الديمقراطية الشاملة التي تتجاوز التصويت في الانتخابات إلي الحرية الحقة والمشاركة في نصيب عادل من ثروة البلاد، وانتشار قيم المساواة والعدل والكرامة والحرية. إن الديمقراطية قيم ومثل عليا وثقافة واحتكام للأغلبية السياسية لا الدينية شرط أن تكون الأقلية راضية ومشاركة في وضع الدستور والقوانين التي يحتكم إليها الجميع كمواطنين لا رعايا، لأن الأغلبية هي بطبيعتها متغيرة ويمكن في زمن آخر أن تصبح أقلية والعكس بالعكس. ينظم الدين علاقة الإنسان بربه التي لا يجوز أن يتدخل أحد فيها فحرية الاعتقاد لابد أن يكفلها الدستور وقال القرآن الكريم «من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» ولكن هذه العلاقة مع الله سبحانه وتعالي لا يجوز في العصور الحديثة أن تكون موضوعا للجدل في المجال العام فهي علاقة خاصة بين الإنسان وربه. أما ما هو عام فينظمه الدستور والقوانين والمؤسسات المنتخبة علي أساس منهما. ولكن علي ما يبدو فإننا الآن نلعب في الوقت الضائع فقد وقعت الكارثة التي ستجرنا إلي مستقبل غامض لأن «مجانين الله» كما يسميهم أحد الباحثين سوف يتولون كتابة الدستور. ومع ذلك فإن المواجهة قادمة بين الحداثة والتخلف، بين العقل والنقل، بين القائلين بأن «الدين لله والوطن للجميع» ودعاة الدولة الدينية التي ستجرنا إلي الخلف وتنهك قوانا وتبددها في الصراع الطائفي والدفاع عن الحريات العامة التي كنا نتطلع إلي المزيد منها. وصحيح أن التاريخ ليس صاعدا دائما وأنه عرضه لمراحل ارتداد ونكوص..ولكن قانون التقدم سوف يشق طريقه علي أن يكون أنصار الحداثة والديمقراطية والعدالة والكرامة الإنسانية - وهم قوة كبيرة- جاهزين للمواجهة مسلحين بكل ما يلزم للانتصار فيها ولو علي المدي الطويل.