عبر شاشة شابة، واجهتنا امرأة عجوز وكأنها التاريخ والجغرافيا معا لتقول كلماتها حول ما حدث في بورسعيد «لو انت كنت عملت للشعب حاجة حلوة كنا حنحبك، كنت انت وعيلتك شبعانين، وكل الناس جعانين وكنت عايزنا نحبك إزاي؟» كانت المرأة تتحدث عن مبارك وأيامه بينما كان الموضوع في هذه اللحظة هو بورسعيد بعد المباراة، لكن المرأة التي كانت تجاهد لتخرج كلماتها بدت وكأنها انتظرت طويلا هذه اللحظة لتدلي بشهادتها عما حدث، ويحدث.. الإصرار و«حلاوة الروح» بدا واضحين عليها وهي تقترب من الميكروفون بمشقة بالغة لتكشف لنا، وسط كثيرين من البورسعيديين في السوق التجاري للمدينة والذي كان خاليا تماما من المشترين، عن مأساة بلد وشعب وجزء مهم من الوطن. اختار جابر القرموطي مقدم برنامج «مانشيت» علي قناة ON أن يذهب بنفسه مع فريق صغير، وأن يري بنفسه ويسمع الناس بأذنيه وليس عبر المراسلين، وكان الإعلامي وائل الإبراشي قد سبق بيوم كامل «السبت» في برنامجه «تحقيق» علي قناة دريم، وقدم حلقة قوية عن هموم والام شعب المدينة بعد المباراة المأساوية وما حدث فيها، لكن الإبراشي اكتفي بالمراسلين، بينما قرر القرموطي أن يذهب بنفسه ليعاين الحياة في المدينة وليقابل الناس في شوارعهم علي الطبيعة وهناك فارق كبير بين أن تري بعينيك أو بعيني غيرك، وأقله هو أن تتاح لك فرصة اللقاء مع نماذج «أصلية» من البشر، غير مكررة مثل هذه المرأة العجوز التي قال البعض إنها تظل صامتة فترات طويلة ثم تهب فجأة لكي تقول شهادات لا تحتمل مزيدا من الصمت، ومثل المرأة الأخري، الشابة، التي التفت بعلم مصر وحكت لنا حكايتها هي وزوجها الراحل مع مبارك وموظفيه، زوجها قضي في الجيش 9 سنوات وخرج بدون معاش، كما خرجت هي بعد عمل طويل دون معاش، هل كانت مأساة مباراة الأهلي والمصري هي مأساة الشباب الذي استشهد بيد الغدر والإهمال فقط في المدرجات أم أنها مأساة شعب وبلد وجزء مهم من مصر تم انتهاكهم بعنف وتجويعهما بإصرار من النظام السابق؟ أن ما رأيناه عن بورسعيد في هذه الأيام القليلة في كل القنوات العامة والخاصة والدولية ، وما سمعناه من الإذاعات يعني إدانة لكل هذه الوسائل الإعلامية برغم سباقها المحموم لتغطية أحداث مباراة الأهلي والمصري وسقوط مشجعي الأهلي من الألتراس قتلي (75 قتيلا) مع مئات الجرحي وحيث بدأت القضية أولا بالدهشة ثم الغضب ثم البحث عن المتهم في هذه المجزرة، ثم التفتت الفضائيات إلي مظاهرات الشباب والهجوم علي وزارة الداخلية مرورا بلجنة تقصي الحقائق وتصريحات البرلمان ومؤتمر وزير الداخلية محمد سليمان صباح الأحد.. كل البرامج انشغلت بالحديث مع شباب الألتراس أو غيره عن أصدقائهم الذين ماتوا وعن هذه الظاهرة التي لم نولها نحن المواطنون العاديون أهمية خاصة، أي الألتراس، ولم يفكر الكثيرون في القيام بعمل علمي بالتعاون مع أساتذة الهندسة للبحث عن كيفية اختراق كل الدفاعات والحصون لقتل جمهور الأهلي، أي برنامج يستخدم العلم في تحديد كيفية التخطيط للجريمة، لكن هناك من فكر في الذهاب إلي شعب بورسعيد لنراه وهو يتظاهر «رجالا ونساء» ضد ظلمه مرتين، مرة بسبب اتهامه بالغدر وقتل مشجعي الأهلي، ومرة أسبق حين أغلق مبارك عليه منافذ العمل والحياة لمدة 15 عاما، هل أعاد هذا الحادث المشين اكتشاف هذه المدينة الباسلة الصابرة؟ نعم، وبفضل هذا القبح والغدر سلط الإعلام الضوء علي ظواهر وقوي وهوامش قريبة منا جدا، لكنها مجهولة ومعتمة، ولا يتحجج أحد منا بأن من يقرأ جيدا يعرف كل ما قدمته وسائل الإعلام المرئية والمسموعة عن الألتراس وعن بورسعيد وعن.. فالأغلبية منا لا تقرأ الآن ولكن تري أولا وتسمع.. ومهما دبجنا مقالات عن الأوضاع الاقتصادية السيئة للبورسعيديين فلن توازي تلك الدقائق التي قضاها القرموطي في السوق الخالي وفي الميدان وفي سماع الناس يدارون الفقروسوء الأحوال بالكرامة.. صحيح أن هؤلاء ليسوا الهدف الأول للإعلامي حين يحقق في قتل المشجعين لكنهم الهدف الأهم للإعلام الحقيقي، علي الأقل لرفع الظلم وتبرئة السمعة.. ثم توسيع دوائر الأدلة حول جرائم سكان منتجع طرة.. وما أغدرهم.